في 30 أغسطس 2021 أنهت قوات الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون انسحابهم من دولة أفغانستان بعد أن استمر احتلالهم مدة 20 عاما متواصلة ، أنفقت الولايات المتحدة فيها 2 تريليون دولار بغرض قمع المقاومة الأفغانية التي تزعمتها حركة طالبان، وقتل الأمريكان نحو نصف مليون أفغاني فضلا عن الجرحي والأسرى، و اصطنعت الولايات المتحدة جيشا أفغانيا ليتولى محاربة طالبان سواء في وجودها أو بعد انسحابها، لكن هذا الجيش الذي بلغ قوامه 300 ألف ضابط وجندي انهار في غضون أيام قليلة فور بدء المرحلة النهائية من انسحاب القوات الأمريكية والغربية.
لقد مثل الانسحاب الأميركي الأوروبي من أفغانستان وانهيار الجيش الأفغاني الموالي لهم نصرا مؤزرا لحركة طالبان التي بسطت سيطرتها على دولة أفغانستان بكل مهارة واقتدار، وهذا كله كان بمثابة مفاجأة صادمة للمعسكر الأميركي الأوروبي وحلفائه في العالم كله، كما تسبب في دهشة بقية العالم من منافسي المعسكر الغربي، كما أن هذا الانتصار مثل بارقة أمل لدي أهل السنة في ظل ظلام حالك مليء بانكسارات ظللت غيومها سماء الأمة الإسلامية.
فما سبب هذا الانتصار الطالباني على أعتى القوى العسكرية في تاريخنا المعاصر؟
قد يظن البعض أن هذا أمر مألوف بالنسبة لأفغانستان التي سبق وأن نجحت في دحر قوات الإمبراطورية البريطانية عام 1842م، كما نجحت في هزيمة الاتحاد السوفيتي السابق وطرده عام 1989، لكن الأمر هذه المرة أعقد وأكبر لأسباب عديدة، لعل أبرزها أن حركة طالبان الأفغانية قادت مقاومة الأفغان للغزو الأميركي وصمدت مقاومتها هذه في وقت انفردت فيه الولايات المتحدة بالهيمنة على العالم كله في ظل نظام دولي أحادي القطبية، وظلت طالبان صامدة في مواجهة الولايات المتحدة قبل أن تبرز قوى دولية أخرى تنافس أمريكا في التأثير في ديناميات النظام الدولي، وفي ظل انشغال الولايات المتحدة بمصارعة المقاومة الإسلامية في أفغانستان والعراق والصومال وغيرها؛ بدأ بزوغ قوى دولية أخرى مثل الصين وروسيا وجنوب أفريقيا والتي لم تبادر الى مزاحمة او منافسة تأثير الهيمنة الامريكية على بعض المناطق إلا بعد نحو 15 عاما من احتلال أفغانستان، أي أن العملاق الأميركي ظل لنحو 15 عاما لا يقف في وجه طغيانه غير القوى الإسلامية، وفي قلب هذه القوى كانت حركة طالبان أفغانسان، ومن هنا تأتي بعض جوانب تميز تجربة طالبان العسكرية والسياسية والدعوية والاجتماعية لأنها هي التي نجحت في تحقيق هدفها وإرغام الولايات المتحدة على الانسحاب من أفغانستان بعكس العراق مثلا التي مازال للولايات المتحدة فيها قوات وتأثير ونفوذ حتى الآن.
كما تميزت تجربة طالبان أفغانستان في استخدامها للعديد من الأدوات لتحقيق هدفها في التحرير والتمكين، سواء الأدوات العسكرية أو السياسية أو الإعلامية أو الاجتماعية والدعوية، فلم تحصر نفسها وخياراتها في أداة واحدة بل استغلت كل أنواع الأدوات مما ممكنها من اقتناص العديد من الفرص وتجنب العديد من المخاطر.
ويمكن تأمل نجاح حركة طالبان في استخدام هذه الأدوات عبر المحاور التالية:
الأداة العسكرية
استخدمت حركة طالبان المقاومة المسلحة ضد الغزو الأمريكي منذ بداية الغزو وحتى آخر يوم من انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، لاسيما وأنها أثبتت امتلاكها مهارات سياسية مكنتها من إدراك أن الولايات المتحدة سعت للتلاعب بها عبر المفاوضات من أجل كسب المعارك العسكرية ، ولم تهدف لحل الأزمة عبر المفاوضات منذ مراحلها الأولى.
ويمكن ملاحظة المعالم الأساسية في استخدام طالبان للأداة العسكرية:
- حرب العصابات:
فقد اعتمدت طالبان بشكل كبير على حرب العصابات في قتالها ضد القوات الأمريكية، وتميزت هذه الاستراتيجية بالهجمات الخاطفة والكمائن والتفجيرات.
- استخدام الأسلحة الخفيفة و الألغام الأرضية والعبوات الناسفة:
حيث ركزت طالبان على استخدام الأسلحة الخفيفة مثل الرشاشات والقنابل اليدوية والصواريخ المحمولة على الكتف، والتي كانت مناسبة أكثر لطبيعة التضاريس الجبلية في أفغانستان، كما استخدمت طالبان الألغام الأرضية والعبوات الناسفة بكثافة.
- توظيف التضاريس الوعرة لأفغانستان:
فمن الواضح أن طالبان استفادت من معرفتها الجيدة بالتضاريس الجبلية في أفغانستان لشن هجمات مفاجئة على القوات الأمريكية.
- استخدام الحرب النفسية ضد القوات الغربية والقوى المحلية التابعة لها:
فقد استخدمت طالبان الحرب النفسية لنشر الخوف بين القوات الأمريكية وقوات الحكومة الأفغانية التابعة لأميركا.
الأداة السياسية
رغم شراسة العمليات الحربية المسلحة ورغم ما يشاع عن تشدد حركة طالبان دينيا وسياسيا؛ لم تهمل حركة طالبان العمل السياسي أبدا، ويمكن ملاحظة المعالم الأساسية في استخدام طالبان للأداة السياسية على النحو التالي:
- الحرص على حيازة الدعم الشعبي:
فقد حافظت طالبان على كسب دعم القبائل الأفغانية، خاصة في المناطق الريفية، مما ساعدها في الحصول على المعلومات والدعم اللوجستي لمقاتليها، كما استخدمت وسائل الإعلام لنشر الدعاية بين الجمهور وتجنيد مقاتلين جدد.
- التحالفات الداخلية والخارجية:
عقدت طالبان تحالفات مع جماعات محلية قبلية ودينية وعرقية عديدة، كما استفادت من امتدادات القبائل الأفغانية في باكستان وسعت للحصول على دعم بعض الدول الإقليمية مثل باكستان وإيران، وبعض القوى الدولية المتناقضة مع الولايات المتحدة مثل الصين وروسيا الاتحادية وبعض الدول المتعاطفة مع أفغانستان مثل قطر.
- التفاوض مع الولايات المتحدة نفسها :
لم تتردد طالبان في التفاوض مع الولايات المتحدة سرا وجهرا عندما اتيحت لها الفرصة ، ولكن وفق خطوات واستراتيجيات محسوبة بدقة أدت في النهاية لإجلاء القوات الأمريكية والغربية عن أفغانستان بعد أكثر من عشر سنوات من التفاوض.
ويمكن ملاحظة أهم استراتيجيات طالبان في التفاوض على النحو التالي:
- رفض الاعتراف بالحكومة الأفغانية:
وهي التي نصبتها الولايات المتحدة في أفغانستان كما رفضت طالبان مشاركتها في المفاوضات.
- الصبر الاستراتيجي:
اتبعت طالبان استراتيجية الصبر الاستراتيجي، وانتظرت حتى حان الوقت المناسب للتفاوض مع الولايات المتحدة من موقع قوة.
- الاعتماد على استمرار المقاومة العسكرية:
استمرت طالبان في شن هجمات على القوات الأمريكية وقوات الحكومة الأفغانية خلال فترة المفاوضات، مما ضغط على الولايات المتحدة للوصول إلى اتفاق.
- وحدة حركة طالبان:
حافظت طالبان على وحدة قيادتها خلال المفاوضات، مما ساعدها على الحفاظ على موقف تفاوضي قوي.
- الإصرار على انسحاب القوات الأمريكية:
ركزت طالبان في مفاوضاتها مع الولايات المتحدة على انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، ورفضت تقديم تنازلات جوهرية قبل تحقيق هذا الهدف.
- المطالب المتشددة:
طرحت طالبان مطالب متشددة في بداية المفاوضات، واستخدمت هذه المطالب كأداة ضغط على الولايات المتحدة.
- الاستفادة من الانقسامات الأمريكية:
استغلت طالبان الانقسامات داخل الإدارة الأمريكية حول ملف أفغانستان، وساعد ذلك طالبان في الحصول على تنازلات من الولايات المتحدة.
- استخدام الدبلوماسية:
استخدمت طالبان الدبلوماسية لكسب التأييد الدولي لموقفها التفاوضي.
الأداة الإعلامية
رغم شراسة المعارك العسكرية وسخونة الصراع السياسي لم تهمل طالبان العمل الإعلامي بكل أساليبه المناسبة لواقع أفغانستان والمناسبة أيضا لمحدودية إمكانات حركة طالبان، فاستخدمت الإذاعة المسموعة لمناسبتها للشعب الأفغاني وكذا الخطب في المساجد وتوزيع المنشورات الورقية المطبوعة بجانب الانترنت والسوشيال ميديا والإعلام الدولي على النحو التالي:
- الدعاية ضد الغرب: استخدمت طالبان الدعاية لإبراز جرائم الولايات المتحدة وحلفها في أفغانستان.
- الرسائل المتضاربة: أرسلت طالبان رسائل متضاربة حول استعدادها للتفاوض مع الولايات المتحدة.
- التهديدات: استخدمت طالبان التهديدات إعلاميا ضد قوات الولايات المتحدة والغرب والقوى الأفغانية العاملة معهم.
- الدعوة الدينية: استخدمت طالبان الدعوة الدينية لكسب تأييد الشعب الأفغاني.
- الوعود بتحسين الأوضاع: وعدت طالبان الشعب الأفغاني بتحسين الأوضاع الأمنية والاقتصادية في أفغانستان.
- الخطاب الشعبي: وجهت طالبان خطابا شعبيا يستثمر مشاعر الاستياء من الاحتلال الأمريكي لكسب تأييد العديد من فئات الشعب الأفغاني.
أداة العمل الاجتماعي والدعوي
رغم كل تعقيدات الصراع والمعارك في أفغانستان ؛ لم تغفل حركة طالبان العمل الاجتماعي والدعوي لإدراكها أنه ركيزة مهمة لقاعدة قوتها وقدراتها الحقيقية، وحددت ببراعة الفئات الاجتماعية المناسبة لاستمالتها نحو تأييد حركة طالبان ، وهي الفئات الريفية والقبلية لعدم تلوثها بمفاهيم التغريب والانحراف عن تعاليم الإسلام ، ولم تقتصر على عرقية البشتون التي هي أغلبية الشعب الأفغاني بل تمددت وانتشرت دعوتها وعملها الاجتماعي الدعوي والخدمي بين الأقليات الإثنية والقبائل الأخرى، حتى رأينا كتائب مسلحة كاملة من كل عرقية تتولى تحرير مناطق عرقيتها، كما حدث على سبيل المثال لا الحصر مع عملية تحرير مدينة قندوز عام 2015 ذات الأغلبية الطاجيكية.
ويمكننا أن نقول؛ إن انتصار طالبان التي توصف بأنها "حركة" على الولايات المتحدة التي تكاد تكون امبراطورية عالمية، يفوق انتصار الأفغان الأول على الروس عندما غزوا أفغانستان عام 1979، لأن الجهاد الأفغاني الأول ضد الروس؛ كانت تدعمه غالب الحكومات العربية والإسلامية بأوامر من أمريكا نكاية في الاتحاد السوفييتي، بينما لم تدعم أي دولة عربية أو إسلامية حركة طالبان بأوامر من أمريكا أيضا، ومما يؤسف له أن (إمارة أفغانستان) التي تسلمت السلطة بعد انتصار الشعب الأفغاني معها واختياره لها؛ لم تعترف بها أي دولة عربية أو إسلامية أو غير إسلامية حتى اليوم، باستثناء اعتراف ضمني من الصين وروسيا لكنه غير رسمي.
وعلى كل حال فانتصار حركة طالبان على الولايات المتحدة وحلفائها من أوروبا الغربية والناتو وعملائهم من الأفغان هو أمر جلل، وتحتاج دراسته إلى تأليف كتاب وليس مجرد كتابة مقال.