في هذا التحليل نحاول رصد العديد من المتغيرات المؤثرة في تحديد مستقبل القاعدة بعامة وفي العراق بخاصة بناء على معلوماتنا الدقيقة و الموثوقة.و ربما كان السبب في عدم اتضاح معالم مستقبل القاعدة في العراق هو نقص المعلومات التفصيلية عن القاعدة بعامة وعن القاعدة في العراق بخاصة، و كذلك غياب صورة واضحة عن طبيعة القاعدة و طبيعة مشكلاتها الهيكلية و جوانب كل من التميز و الضعف فيها.و أول ما نلمحه مما يمكن أن نسميه "الخلل الهيكلى" في طبيعة تنظيم القاعدة هو طبيعة علاقتها بجماهير الناس الذين تعمل في محيطهم بصفة عامة والقوى التقليدية بين هذه الجماهير بصفة خاصة، وسبب ذلك الطبيعة المنغلقة لأعضاء القاعدة و تمسكهم بآرائهم و أفكارهم بجمود و تعصب و بلا تسامح مع المخالف في أدق الفروع الفقهية البسيطة فضلا عن الأصول و العقائد، و جعل ذلك أعضاء القاعدة يعادون و يستعدون الجماهير عامة والقوى التقليدية بشكل خاص كالمؤسسات الدينية التقليدية و الطرق الصوفية و نحو ذلك.
و كان الاستثناء الوحيد في ذلك أفغانستان، حيث أدى جهاد القاعدة ضد الروس وتضحيات شبابها بدمائهم لإرساء قدر ما من الحب والثقة تجاه القاعدة لدى كثير من قادة القوى الدينية التقليدية.
حالة أفغانستان هذه استثناء محدود لأن السنوات بل الشهور الأخيرة قبيل أحداث 11 سبتمبر2001م في أفغانستان شهدت خلافات كثيرة بين القاعدة وقادة طالبان مما أدى بالملا محمد عمر إلى تعيين أحد أتباعه المخلصين من قادة الحركة الإسلامية في أسيا الوسطى مسئولا عن القاعدة و كل المنظمات الإسلامية غير الأفغانية و ذلك طوال وجودها داخل الأراضى الأفغانية بهدف إحكام السيطرة عليها و ضبط تجاوزاتها.ولم يعزز القاعدة بطالبان سوى الغزو الأمريكى و الغربى لأفغانستان حيث اندمجت الدماء المتدفقة من قادة القاعدة وطالبان في مواجهة الغرب مما عزز التعاون بينهم.
نفس الشئ كان من الممكن أن يحدث في العراق أى أن تلغى مواجهة المحتل الأمريكى الفوارق الفكرية والعقائدية بين أنصار القاعدة و بين عامة الجماهير العراقية و سائر القوى الشعبية التقليدية و أن تدفع قادة القاعدة إلى غض الطرف عن بعض من مواقف الجماهير والمؤسسات التقليدية المخالفة لأفكار و مذاهب القاعدة الفقهية.
لكن شيئا من هذا لم يحدث وحاول قادة القاعدة فرض مفاهيمهم الفقهية التفصيلية على أوجه حياة جماهير عاشوا لعقود طويلة في ظل حكم علمانى استبدادي، هذا فضلا عن اختيار القاعدة للدخول في صراع طائفى مع الشيعة على خلفية الخلاف المذهبى بين السنة والشيعة.
أما ثانى جوانب الخلل الهيكلى في طبيعة تنظيم القاعدة فهو الطبيعة المتنافرة التى تحكم علاقة قادة القاعدة بينهم و بين بعضهم البعض، فكلنا نذكر "خطاب" و علاقة التنافس التى سيطرت على موقفه من "أسامة بن لادن" لدرجة أن خطاب لم ينضم للقاعدة أصلا، بل أسس جماعته في الشيشان من أعضاء و قادة كانوا ومازالوا من أعضاء و قادة القاعدة.
و بالنسبة للعراق فأبو مصعب الزرقاوى نفسه لم يكن في يوم من الأيام عضوا في القاعدة و لا تابعا لأسامة بن لادن و أيمن الظواهرى بل ظل مستقلا حتى فترة متأخرة من وجوده بالعراق، ثم انضم في الفترة الأخيرة من حياته للقاعدة بقيادة أسامة بن لادن و أيمن الظواهرى تحت ضغط الواقع.
و هكذا التنافس هو سيد الموقف في علاقة الكثيرين من القادة المحسوبين على القاعدة بين بعضهم البعض حتى في العراق و تحت قصف الطائرات الأمريكية.
و ثالث جوانب الخلل الهيكلى في طبيعة تنظيم القاعدة هو عدم اشتغالهم بالسياسة و عدم دخولهم في المعادلات السياسية المحيطة و حتى عدم السعى لتغييرها و إرساء معادلات سياسية أخرى تحقق أهدافهم.
فقادة القاعدة غالبا و كذا أنصارها لا يؤمنون بشئ سوى السلاح، فالأمر عندهم هو سلاح و موت وآخرة فقط، و هذا يفتح المجال لغيرهم ليستفيد من نتائج حركة القاعدة سياسيا، حتى لو كان هذا الغير منافسا للقاعدة أو عدوا لها.
و يرتبط بذلك عدم تقدير القاعدة للعواقب و النتائج السياسية و الإستراتيجية لأعمالها.
و بذلك كله نفهم تصرفاتهم في العراق كل يوم إزاء المحتل و الشيعة و عامة الناس.
و أخر جوانب الخلل الهيكلى في طبيعة تنظيم القاعدة هو طريق إفراز و إعداد قادة القاعدة فالقاعدة ليس لها كيان سياسي كبير يتولى تدريب و إعداد القادة على الإدارة و القيادة بعد اختيارهم على أساس التميز، بل كل قائد موكول لقدراته الذاتية التى اكتسبها بمجهوده الشخصى كل حسب ظروف حياته السابقة والحالية (هذا طبعا باستثناء التدريب العسكرى المتميز الذى تمتاز به القاعدة)، كما لا توجد آلية منظمة لترقية القادة من الجندية للقيادة ثم المستويات الأعلى من القيادة بل بالعكس الأمر موكول لظروف الموت و الحياة و الحرب و الصدفة.
فهل تتفوق القاعدة على نفسها وتعالج جوانب قصورها و تحقق المفاجأة بأن تطور نفسها تطويرا جذريا شاملا و سريعا، و تعمل بالسياسة الشرعية، و تتسلح بالشجاعة في مراجعة نفسها في ميدان الفقه و الفكر بنفس درجة شجاعتها في ميدان القتل و القتال؟؟؟
أم هل ستظل تكرر أخطاءها فتنتصر عسكريا و تنهزم سياسيا، و بعد أن تطرد الاحتلال من العراق تخرج هاربة من العراق باحثة عن مأوى كما حدث معها في الصومال في مطلع التسعينات من القرن الماضى الميلادى؟؟؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت هذا التحليل في جريدة الدستور اليومية المصرية في يناير 2008، ثم ضمنته في كتابي "التنظيم والتظير" الصادر عن مكتبة مدبولي بالقاهرة في أول يناير 2010، ص219 وما بعدها.