دور القاعدة وداعش في انقلابات مالي وبوركينا فاسو وأثرهما على الوجود الروسي

بقلم عبد المنعم منيب | 18 أكتوبر, 2022
بوركينا فاسو
بوركينا فاسو

ما هو دور كلٍّ من منظمتي القاعدة وداعش في انقلاب بوركينا فاسو الأخير؟ وما دورهما في انقلاب مالي قبل ذلك؟

لقد نجحت مجموعة من ضباط الجيش في بوركينا فاسو يوم 30 سبتمبر الفائت في الاستيلاء على السلطة بزعامة النقيب إبراهيم تراوري، ووجهوا اللوم للرئيس السابق ورئيس المجلس العسكري الحاكم السابق المقدم بول هنري سانداوغو داميبا، وكان المقدم داميبا قد استولى على السلطة في يناير الماضي بانقلاب عسكري دعمه الشعب في بوركينا فاسو؛ حيث أطاح بالرئيس المنتخب ديمقراطيًّا روش كابوري.

وبحدوث الانقلاب العسكري في بوركينا فاسو الجمعة الفائتة تكون هذه الدولة الإفريقية المنكوبة قد شهدت انقلابين عسكريين في آخر 9 شهور فقط، كما أن بوركينا فاسو نفسها شهدت سبعة انقلابات أخرى منذ استقلالها عام 1960م، وقد قُوبل هذا الانقلاب الأخير بإدانة الاتحاد الإفريقي، وكذلك المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا "إيكواس"، ولكن رغم هذا فقد قابل قطاع كبير من مواطني بوركينا فاسو هذا الانقلاب بالتأييد والترحيب، وخرجت المظاهرات المؤيِّدة للانقلاب رافعةً أعلام بوركينا فاسو.

هذا كله كلام مشهور في التقارير الإخبارية عن انقلاب بوركينا فاسو طوال العشرة أيام الأخيرة، ولكن نريد أن نتفحّص دلالات هذه التقارير، وما حملته من معلومات؛ لنَعِيَ حقيقة ما يجري في منطقة الساحل والصحراء بعامة، وفي قلبها طبيعة ودلالات انقلاب بوركينا فاسو الأخير، ومِن ثَمَّ سنجد إجابة السؤال الذي بدأنا به هذا التحليل.

ولكي ندرك ذلك كله لا بد أن نلمح دلالة مهمة وبالغة، وهي تظاهر جماهير بوركينا فاسو المؤيدين للانقلاب الأخير رافعين علم روسيا بجانب علم بوركينا فاسو، هاتفين لها جنبًا إلى جنب هتافهم تأييدًا للانقلاب، وكذا هتافهم ضد دولة فرنسا، ومهاجمة سفارتها ومركزها الثقافي.

قد يظن البعض أن هذا الأمر دلالته بسيطة؛ فتأييد الانقلاب جاء بسبب فشل المقدم داميبا في حلّ مشكلات بوركينا فاسو؛ من إرهاب وانعدام للأمن، وجفاف وأزمة اقتصادية، وذلك في الشهور التسعة التي حكم فيها البلاد، مع استخدام روسيا الاتحادية أساليب الحرب الهجينة في أغلب إفريقيا؛ لمطاردة النفوذ الغربي بعامة والفرنسي بخاصة؛ للحلول محلّه في نهب ثروات وخيرات القارة السمراء، ولكن حقيقة الأمر أعقد من هذا كله، لماذا؟

لأن أساليب الحرب الهجينة التي تنفّذها روسيا الاتحادية في إفريقيا لم تكن لتنجح لولا البيئة المواتية لنجاحها التي تسود أغلب دول القارة السمراء، ومنها بوركينا فاسو ومالي وغيرهما، فما هي هذه البيئة المواتية؟ ومَن صنَعها؟

إن البيئة المواتية التي نقصدها تشمل ركنين أساسيين؛ هما:

الركن الأول: حالة الفشل التي تعيشها الدولة في العديد من بقاع قارة إفريقيا، وأبرز سمات الدولة الفاشلة كما تحدّدها الأدبيات السياسية هي:

1- الفشل الوظيفي للدولة: يشير البعد المؤسسي لشرعية الدولة، وقدرتها المؤسسية على ممارسة سلطتها على شعبها وإقليمها، ويشير البعد الوظيفي لمدى قدرة الجهات الحكومية واستعدادها على توفير السلع والخدمات العامة مثل سيادة القانون، والحماية من العنف، والبنية التحتية، والتعليم العام والرعاية الصحية، وأعلى نسبة من حالات الفشل الحكومي الهائل نجدها في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.

2- الفشل الاجتماعي: إذا كانت الظروف المعيشية بائسة والامتيازات الاجتماعية والاقتصادية ضيّقة ومخصَّصة فقط للطبقة الحاكمة (النخبة) أو مؤيديهم أو رجال الأعمال أو مجموعة معينة، يساهم ذلك في شَحْذ المنافسة بين الجماعات داخل الدولة.

3- الفشل بسبب عوامل ثقافية وتاريخية: مثل اللغة أو الدِّين، والهويات العرقية المختلفة التي يمكن أن تُستغَل للتعبئة، والتلاعب السياسي، والاستقطاب، بما يؤدّي إلى فشل الدولة أو انهيارها، فتأتي أهمية الهوية جنبًا إلى جنب مع الآثار التراكمية من الفقر، وزيادة عدد السكان، والهروب من الريف، والتوسُّع الحضري السريع، وعدم عدالة التوزيع التي تُفْضِي لا محالة إلى معدلات عالية من العنف وعدم الاستقرار السياسي، بل وتآكل النظام السياسي، وتُعدّ الممارسات الاستعمارية السبب الرئيس وراء الصراعات والانقسامات العرقية، وهي التي مهَّدت للتمييز ضد فئات معينة، كما رأينا في رواندا أو الكونغو- كينشاسا.

الركن الثاني: الإرهاب الذي تمارسه منظمة القاعدة وداعش ونحوهما من العناصر المسلحة، فاستقراء سلوك الجماعات المسلحة، وعلى رأسها القاعدة وداعش، يُنبئنا أنها تتجه للعمل في الدول الفاشلة؛ لشعورها بسهولة الحركة في هذه الدول، وينتج عن وجود هذه المنظمات المسلحة وحركتها أن تزداد عملية فشل الدولة، مما يُضاعِف من معاناة مواطني الدولة الفاشلة، ويُعمّق جراحها؛ كما نرى في مختلف دول إفريقيا التي تنشط فيها المنظمات المسلحة الموالية للقاعدة أو الموالية لداعش أو عصابات الجريمة المنظمة المسلحة من مهربي البشر والمعادن.

إن هذين الركنين صنعا معًا بيئة مواتية لتتدخل الإمبريالية الغربية في القارة، وكي تقدّم نفسها في صورة المنقذ المنتظر، ونظرًا لتكالب العديد من هذه القوى الإمبريالية الغربية على ثروات القارة السمراء البِكر فقد تصارعت هذه القوى معًا حول حيازة النفوذ في القارة، وعلى رأس القوى الإمبريالية الأوروبية نجد فرنسا وروسيا؛ حيث قدّمت فرنسا نفسها كمنقذ لمستعمراتها السابقة، خاصة في وسط وغرب إفريقيا، وتقبَّلتها العديد من الشعوب الإفريقية في البداية، بل رحَّبت بها، وهتفت لها؛ سواء مع بداية الرعاية الفرنسية لمجموعة 5G أو عملية برخان الفرنسية، لكن مع مرور السنوات حدث أمران متداخلان هما:

الأمر الأول: فشلت فرنسا في إيقاف نزيف الإرهاب، بل إن الجروح الغائرة التي طبعها الإرهاب على جسد المواطنين الأفارقة زادت يومًا بعد يوم؛ ففي بوركينا فاسو وحدها بلغ عدد النازحين بسبب الإرهاب مليوني نازح، فضلاً عن آلاف القتلى من المدنيين بخلاف العسكريين والشرطيين.

الأمر الثاني: استغلت روسيا هذا الفشل للترويج لنفسها وتأليب الشعوب الإفريقية ضد فرنسا، واستخدمت روسيا في ذلك أساليب الحرب الهجينة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وقناة "روسيا اليوم" التلفزيونية الناطقة بالفرنسية ووكالة "سبوتنيك للأنباء"؛ اللتين تحظيان بمتابعة متزايدة في جميع البلدان الفرنكوفونية في وسط وغرب إفريقيا، ويأتي هذا في إطار إعداد الساحة لنشر اليد السوداء لروسيا في مناطق النفوذ في إفريقيا، وهذه اليد السوداء هي شركة فاغنر الأمنية التي يملكها صديق رئيس روسيا "الملقب بطباخ بوتين"، ودائمًا يتم إعداد الأجواء لنشر مقاتلي فاغنر في أماكن بإفريقيا من خلال حملات شاملة تمتدّ لأشهر وأحيانًا سنوات تشمل وسائل التواصل الاجتماعي واحتجاجات الشوارع.

ووجد محققون من مختبر أبحاث الطب الشرعي الرقمي التابع للمجلس الأطلسي أن المحتوى الموالي لروسيا قد انتشر على منصات التواصل الاجتماعي في غرب إفريقيا في الأشهر التي سبقت الانقلاب العسكري في يناير 2022م في بوركينا فاسو، وأن الدعم عبر الإنترنت لروسيا قد ازداد بشكل مطرد منذ ذلك الحين، كما انتقدت مواقع عديدة فرنسا بشدة ودعت إلى التدخل الروسي.

ومن هذا كله نفهم ماهية الدور الذي لعبته وتلعبه منظمتا القاعدة وداعش وما شابههما من المنظمات المسلحة؛ فهذه المنظمات عندما جاءت للدول الإفريقية الفاشلة لم تستغل الفراغ الذي أحدثه الفشل لتقيم دولة عادلة وناجحة تخدم المواطنين، بل جاءت هذه المنظمات فاستغلت هذا الفراغ كي ترتع فيه بسلاحها بهجمات دامية أثخنت المجتمع والدولة؛ فبدلاً من أن تعالج فشل الدولة زادته وعمَّقته، وفوق هذا علَّقت برقبة نفسها جرسًا يعلن مسؤوليتها عن فشل المجتمع والدولة وكل المآسي والجراح التي تعانيها المنطقة (من قبل مجيئها)؛ مما أفسح الطريق للدُّبّ الروسي كي يظهر بصورة المُنْقِذ المنتظَر، ويدفع بضباط مغامرين ليقودوا الانقلابات، ويُمهِّدوا الساحة لدخول قوات فاغنر للهيمنة على الدولة الإفريقية، سواء في بوركينا فاسو، ومن قبلها مالي وإفريقيا الوسطى، وغيرهما.

إن المسؤول عن هتاف مواطني بوركينا فاسو (وقبلهم مواطنو مالي) لروسيا، ورفعهم عَلم روسيا هو منظمة القاعدة ومنظمة داعش وأخواتهما، فهناك 40% من أراضي بوركينا فاسو تحت سيطرة المسلحين من القاعدة أو داعش، فلو كانوا أقاموا فيها حكمًا رشيدًا عادلاً فعَّالاً وناجحًا، وحقَّقوا حدًّا أدنى من الكرامة في هذه الـ40% من الأراضي؛ لكان بقية المواطنين رفعوا أعلام القاعدة أو داعش، وطالبوها بالسيطرة على الـ60% الباقية من الدولة، بدلاً من أن يهتفوا لدولة انتهازية إمبريالية أوروبية (روسيا)، ويرفعوا عَلمها، ويطالبون بالتعاون مع مرتزقتها المعروفين بلصوصيتهم ونهبهم للثروات (فاغنر)، ونفس الشيء في مالي؛ حيث لا تسيطر الدولة هناك –كانت ولا زالت- إلا على 15% من أراضي الدولة، بينما الباقي تحت هيمنة الحركات المسلحة من داعش والقاعدة وأخواتهما.

إن منظمة القاعدة أثخنت ومازالت تثخن قتلاً في رجال الجيش والشرطة بغرب إفريقيا، أما داعش فتفعل ذلك وتزيد على الإثخان قتلاً بوحشية ضد كل المواطنين، وتحرق المناطق؛ دافعةً الجميع للهرب لينجو بأنفسهم، فلا عجب أن يهتفوا لروسيا وفاغنر (وقبلها بسنوات كان الهتاف لفرنسا) بدلاً من أن يرفعوا أعلام القاعدة أو داعش.

 ومن هنا فيمكننا اعتبار أن داعش والقاعدة يخدمان روسيا في إفريقيا بأسلوب غير مباشر.