مستقبل الجهاديين في مصر و العالم

بقلم عبد المنعم منيب | 18 أكتوبر, 2012

هذا الموضوع كتبته عام 2009 و تم نشره في كتابي "التنظيم و التنظير" في يناير 2010 , و كان المثار وقتها هو التساؤل عن مستقبل التيار الجهادي  بعد مراجعات د. سيد امام الشريف حفظه الله , من منطلق سؤال محدد هو هل هذه المراجعات ستغير أفكار و استراتيجية الجهاديين في مصر و العالم ؟ لكن بعد ثورات الربيع العربي أصبح هناك (من وجهة نظري)  تحدي سياسي و استراتيجي و فقهي مطروح في طريق الجهاديين على مستوى العالم .. هذا التحدي متمثل  في أن ثورات الربيع العربي لم تطرح  استراتيجيات للتغيير و العمل السياسي جديدة فقط بل انها أثبتت فعالية و صواب هذه الاستراتيجيات التي طرحتها و تلك الاستراتيجيات التي أثبتت نجاحها في مصر و تونس و اليمن (و بدرجة ما في ليبيا) هي: 

1- استراتيجية التغيير عبر المظاهرات و الاعتصامات الشعبية الواسعة و المستمرة لاسقاط الطاغية أو الضغط لتحقيق هدف تغييري محدد.

2- المشاركة في العملية السياسية عبر الانتخابات بعد اسقاط الطاغية.

3- المزج بين المشاركة في الانتخابات و بين المظاهرات و الاعتصامات لتحقيق أهداف التغيير.

4- التحرك عبر الشارع السياسي و الاستقواء بالجماهير لتحقيق الأهداف في المرحلة الانتقالية دون الاشتراك في الانتخابات و هو ما قامت به عدة حركات ثورية في مصر اسلامية و غير اسلامية و نجحت فيه بقدر كبير.

 

الجهاديون مدعوون لتبني هذه الاستراتيجيات أو بعضها و التاصيل لذلك فقهيا و الا فليأتوا ببديل عنها يحقق نفس نجاحاتها بنفس الدرجة كما انهم في حالة رفضهم لهذه الاستراتيجيات التي أثبتت فعالياتها عليهم أن يقدموا المبرارات السياسية و الاستراتيجية المقنعة التي تبرر هذا الرفض.

 

و انطلاقا من كل هذا فإنني أود الكتابة في تفصيلات ما سبق كله , و لكن لم اجد وقتا لذلك حتى الآن , و أثناء تقليبي في كتاب التنظيم و التنظير رأيت أنه قد يكون من المفيد اعادة نشر هذا الفصل من الكتاب هنا الآن كخطوة مؤقتة إلى أن ييسر لي الله كتابة الموضوع الذي أطمح اليه ... لا سيما أن هذا النشر قد يثير بعض المناقشات و التعليقات التي ستفيد حتما في تطوير أفكار الموضوع ... و الله المستعان .. عليه توكلت و هو نعم الوكيل.... :

 

"ما هو مستقبل تيار الجهاد المصري و ماهو مستقبل القاعدة بعد مراجعات سيد امام؟

هذا السؤال وجهه لي من مختلف دول العالم كثير من الصحافيين و المحللين المهتمين بشئون الحركات الجهادية خاصة الجهاد المصري و القاعدة...

و لقد جاءت الصفحات الأخيرة في هذا الكتاب كي تعيد علينا طرح هذا السؤال, كما حتمت علينا هذه الصفحات الاجابة على هذا السؤال مهما كانت درجة صعوبته.

 

 

أولا- ما هو المستقبل السياسي للتيار الجهادي بصفة عامة؟

نشأ تيار الجهاد  في البداية كتعبير عن استراتيجية معينة و هي استراتيجية إقامة نظام حكم اسلامي بالقوة المسلحة على أساسين حسب فكر مؤسسي تيار الجهاد:

الأساس الأول- أن نظم الحكم  في العالم الاسلامي هي نظم استولت على الحكم بالقوة المسلحة و ليس بالاختيار الحر للشعب كما أن الغرب الاستعماري تحول من الاستعمار العسكري الى الاستعمار الاقتصادي و السياسي عبر ربط النظم الحاكمة في العالم الاسلامي بنسق اقتصادي يتسم بالتبعية للغرب اقتصاديا و سياسيا و اجتماعيا و ثقافيا  مقابل مساندة الغرب هذه النظم الحاكمة في قمع شعوبها و الاستئثار بثروات بلادها دون شعوبها.

الأساس الثاني- أن استخدام القوة باسم الجهاد هو أحد وسائل العمل السياسي الاسلامي وفق شروط و قواعد و أحكام معينة, و كذلك استخدام القوة في تغيير المنكر هو أحد الوسائل المشروعة وفق قواعد و أسس و أحكام معينة.

ووفق هذه الاستراتيجية فإن تيار الجهاد هو تعبير عن طريقة معينة في التفكير أو بتعبير أدق هو حركة فكرية و سياسية, و لكن تطورات الأحداث منذ نشأة تنظيم الجهاد و حتى الآن أثبتت أن اعتبارات الغضب هي الغالبة على قرارات تنظيمات الجهاد و ليس الاعتبارات السياسية و الاسترتيجية و بالتالي صار الحكم على تيار الجهاد بأنه مجرد تعبير عن غضب و ليس تعبيرا عن فكر أو استراتيجية هو حكم سليم إلى حد كبير و من ثم فإن التعبير الذي أطلقه البعض على تنظيمات الجهاد بأنها تنظيمات الغضب الاسلامي فيه قدر كبير من الصدق.

بل ان شئنا الدقة المتناهية فلنقل أن اطلاق و تأسيس استراتيجية تنظيم الجهاد و فكره السياسي عبر في بدايته عن فكر اسلامي وفق استراتيجية محددة لكنه بعد ذلك غلب علي مراكز صناعة القرار فيه أصحاب نزعات الغضب غير الرشيد على أصحاب الرأي السديد و التفكير الاستراتيجي, و نظرا لهذه الغلبة فإن الفكر السياسي و الاستراتيجي لتيار الجهاد لم ينم و لم يتطور و ظل أسير أفكاره القديمة التي أطلقت منذ نشأته دون مراجعة أو تطوير.

و من هنا تجمد و تكلس الفكر لصالح الغضب و أصبح التيار الجهادي تعبيرا بامتياز عن غضب قطاع مهم من الأمة الاسلامية, لكنه غضب عشوائي لا يحكمه سوى النزوع البشري الفطري للغضب. 

و بسبب ذلك تحتم علينا أن ننظر الى مستقبل التيار الجهادي من هذا المنطلق...منطلق أنه حركة غضب و ليس حركة سياسية تعبر عن فكر استراتيجي ديني ذي اطر موضوعية.

و لقد شهد التاريخ الاسلامي العديد من هذه الحركات منها الخوارج في العصر الأموي و شيعة ال البيت في العصرين الأموي و العباسي الأول, و كان مصيرهما واحد هو الفناء و العجز عن الاستيلاء على الحكم و عن اقامة دولة تسير وفق أسسهم الفكرية و العقيدية. (و المقارنة هنا مقارنة للجوانب السياسية في هذه الحركات و ليس المقارنة العقائدية فالخوارج و الشيعة  و القاعدة مختلفون عن بعضهم البعض عقائديا لكننا نتكلم هنا عن الجانب السياسي فقط).

 لقد اتسم الخوارج و الشيعة في هذه الفترات التي نتكلم عنها بالحماس و الشجاعة الشديدتين و حققا بطولات و نجاحات منقطعة النظير لدرجة أن كان العشرات منهم يهزمون الآلاف من جيوش الأمويين, كما تفانى الشيعة في الثورة و الفداء و التضحية, و مع ذلك لم ينجح أي منهما في ازاحة الأمويين عن سدة الحكم كما لم ينجح اي منهما في اقامة دولة خاصة به و بعقيدته, فقط نجح الشيعة و الخوارج في اضعاف نظام الحكم الأموي الأمر الذي سهل على العباسيين تحقيق أمنيتهم بالاستيلاء على الحكم, لقد استغل العباسيون حركة الخوارج السياسية و العسكرية و حركة الشيعة السياسية و العسكرية للاستيلاء على الحكم الأموي و ليس هنا محل تفصيل ذلك و لكن يكفي القول بأن العباسيين بما امتلكوا من فكر سياسي و استراتيجي متميز تمكنوا من استغلال ثمار و نتائج حركة كل من الفصيلين (الخوارج و شيعة أهل البيت) لتحقيق الأهداف العباسية الاستراتيجية رغم أنها أهداف مضادة و معادية تماما لكل من الشيعة و الخوارج.

بل إن الأمويين بقيادة عبدالرحمن الداخل نجحوا في اقامة دولة لهم في الأندلس بعد سقوط دولتهم في المشرق بسنوات قليلة لما لهم من قدرات في التفكير و العمل الاستراتيجي و السياسي لم تكن موجودة حتى ذلك الوقت لدى الشيعة و الخوارج رغم أنه كان قد مر على نشوء حركتي الخوارج و التشيع (التشيع بمعناه السياسي و ليس العقيدي) في ذلك الوقت اكثر من مائة عام.

و لم ينجح كل من الخوارج و الشيعة بعد ذلك في اقامة الدول الخاصة بكل منهما الا بعدما أجريا تغيرات جذرية على فكرهم السياسي و الاستراتيجي.

و من ثم فاننا نرى أن هذا المصير هو الذي ينتظر تيار الجهاد بصورته الحالية, فروسيا و ايران و سوريا استفادوا من هزيمة الولايات المتحدة في العراق و أفغانستان بينما لم تستفد القاعدة شيئا سوى مجد النصر, روسيا كسبت وقتا رجعت فيه قوة عظمى دولية, و ايران بنت مشروعها النووي و دشنت وجودها كقوة عظمى اقليمية, و سوريا دفعت عن نفسها مخاطر زوال نظام الحكم العلوي و ظلت متشبسة بدورها الاقليمي المؤثر, أما القاعدة فاكتفت بسمعة وصيت النصر, نعم قد تنجح القاعدة أو الجهاديون مستقبليا في استنزاف قوة ما و اضعافها قد تكون هذه القوة الولايات المتحدة او أوروبا أو أثيوبيا (عبر الصومال) أو روسيا (عبر الشيشان) أو ايران (عبر العراق و أفغانستان) لكنها لن تنجح أبدا في اقامة دولة ذات تأثير أو شأن ما لم تراجع فكرها السياسي و الاستراتيجي و تقومهما و تطورهما, لكن قبل أن تغير و تطور نفسها فسيظل الآخرون يستأثرون بثمار عملها دونها, و كما انتصرت في الصومال عام 1994م و خرجت منها و انتصرت في أفغانستان عام 1991م و خرجت منها فسوف تنتصر في العراق و تخرج منها اذا بقيت سائر الاوضاع  داخل تنظيم القاعدة كما هي.  

 

 

ثانيا- ما هو المستقبل السياسي لتيار الجهاد في مصر؟

من الثابت أن تنظيم الجهاد المصري منذ نشأته و حتى الآن كان دائما متكونا من مزيج محدد في القيادة يتمثل في طرفين:

§ طرف مندفع جدا للصدام المسلح مع الدولة (أو متعجل جدا في ذلك) و في تعجله و اندافعه هذا لا يبالي بدواعي نجاحه في تحقيق أهدافه و لا حتى بأدنى القواعد الأمنية أو الادارية الخاصة بمثل هذه التنظيمات في مثل هذه الظروف التي يعملون فيها.

§ طرف رصين لحد ما و يتمتع بقدر ما من الرؤية و التفكير الاستراتيجي و الهدوء النفسي يريد  أن يبني التنظيم بهدوء دون تسرع و بعيدا عن أي صدام مبكر مع أجهزة الدولة, ثم يستولي على الحكم بأقل قدر من الصدام المسلح مع أجهزة الدولة و على أن يستغرق هذا الصدام وقتا قصيرا و بأقل خسائر بشرية. 

 و لقد ظل هذا المزيج يقود تنظيمات الجهاد المختلفة من البناء و التوسع و حيازة قدر ما من القدرة على يد الطرف الهادئ ذي التفكير الاستراتيجي ثم بعدها يتغلب الطرف المندفع على صناعة القرار فيقود التنظيم إلى الانتحار على مذبح الصدام مع أجهزة الدولة.

حدث هذا مع تنظيم اسماعيل طنطاوي عندما انفصل يحى هاشم ثم دخل في صدام مسلح مع أجهزة الأمن قضت على تنظيمه و أرغمت تنظيم اسماعيل طنطاوي على مزيد من التواري و التحلل, و هنا نجد يحي هاشم متسرع و نجد اسماعيل طنطاوي متريث.

و نفس الشئ في تنظيم صالح سرية فنجد التريث من نصيب صالح سرية بينما الاندفاع و التعجل قاده كارم الأناضولي, و نجح كارم في دفع التنظيم لصدام مبكر مع السلطة عبر محاولة انقلابية فاشلة عرفت اعلاميا باسم عملية الكلية الفنية العسكرية.

و تنظيم الجهاد الذي أجهض في عام 1977م كان سبب اجهاضه هو قيام عدد من اعضائه بهجوم مسلح على حراس قنصلية أجنبية بالاسكندرية بهدف سلب أسلحتهم الحكومية.

و تنظيم الجهاد عام 1981م بقيادة محمد عبد السلام فرج (الذي اغتال السادات) قاد عبود الزمر و أحمد سلامة فيه الجناح المتريث بينما قاد محمد عبدالسلام (رحمه الله) و معه قادة الصعيد (هم من يسمونهم الآن بالقيادة التاريخية للجماعة الإسلامية أو مجلس الشورى) الجناح المتهور, و عندما تحالف تنظيم محمد عبد السلام فرج مع تنظيم أيمن الظواهري أصبح تنظيم أيمن بقيادته هو و سيد امام و عصام القمري و أمين الدميري يمثل الجناح المتريث بينما دفع تنظيم محمد عبد السلام فرج الجميع للصدام المسلح مع السلطة ممثلين القوة المتهورة في هذا التيار في ذلك الوقت.

و ابتداء من منتصف 1993م أخذ التيار المتهور في تنظيم الجهاد في السيطرة على قرار التنظيم مما دفع التنظيم للدخول في مواجهة مع أجهزة الحكم في مصر و قاد التنظيم للضعف ثم التحلل عبر الاندماج مع القاعدة.

و منذ منتصف التسعينات من القرن الماضي و لأسباب كثيرة نشأت مجموعات جهادية جديدة كثيرة تميزت بأنها ليست لها اتصال بتنظيم الجهاد المصري كما تميزت بأنها قليلة العدد إذا قيست بما كانت عليه أرقام العضوية بتنظيم الجهاد المصري.

و رغم أن هذه المجموعات اختلفت من حيث تبني بعضها لفكر الجهاد المصري وتبنى بعضها الآخر فكر القاعدة, إلا أنها تكاد تكون اتفقت في شئ واحد هو سيطرة الشخصيات المندفعة التي تتعجل الصدام و القتال مع أجهزة الحكم على قيادة هذه المجموعات أو على صناعة القرار فيها مما أوقعها جميعا تحت مقصلة الاجهاض الأمني المبكر لها قبل أن تتمكن من حيازة إمكانات و قدرات ذات شأن, و صارت سيطرة روح الغضب و الاندفاع و التعجل في الاشتباك المسلح مع أجهزة و رموز الحكم هي السمات الغالبة على مثل هذه المجموعات منذئذ و حتى الآن, و من ثم صار مصيرها القتل أو السجن و لم يعد هناك –حسب المعلومات المتاحة- أي وجود تنظيمي كبير أو مؤثر لتنظيم الجهاد المصري أو القاعدة في مصر, بسبب هذا العامل.      

 

 

ثالثا- ما هو أثر المراجعات على التيار؟؟

 ما هو أثر مراجعات الجهاد التي قادها سيد إمام و من قبله مبادرة وقف العنف التي رسخها قادة الجماعة الاسلامية على الوجود الفكري و التنظيمي للتيار الجهادي؟

ظنت جهات عديدة اسلامية و حكومية أن هذه المراجعات هي فرصة تاريخية أتاحت الإجهاز على فكر و تنظيمات الجهاد في مصر و ربما العالم و الانتهاء من مشكلة وجودها إلى الأبد, لكن في الواقع أن هذا الظن هو مجرد خيالات سطحية لا تصمد أمام التفكير العلمي الجاد كما أشرنا لذلك في الصفحات السابقة من هذا الكتاب, و لا شك أن تيار الجهاد بتنظيماته المختلفة سيظل موجودا وفق العوامل التي أشرنا إليها سابقا.

اذن  ما هو التاثير الحقيقي لمراجعات الجهاد التي قام بها الدكتور سيد إمام الشريف؟

بمكن القول بإطمئنان أنها لا تأثير لها على النسق الرئيسي في فكر الجهاديين في مصر و العالم و لا  على الجسم الرئيسي لتنظيمات الجهاديين سوى أنها حركت الماء الراكد داخل هذا التيار بإثارة الجدل الفكري و التنظيمي, ذلك الجدل الذي لو قدر له أن يستمر و يتطور عبر عقليات ناضجة داخل هذا التيار فإنه سيخلق تطويرا و تجديدا داخل هذا التيار الجهادي و ليس انهيارا و استسلاما و تحولا إلى تيارات أخرى حكومية أو إسلامية كما ظن البعض, أما ما لم يستمر هذا الجدل و يتطور فإنه لن يكون لهذه المراجعات أي تأثير يذكر على هذا التيار. 

أما المراجعون الذين يتسمون بالإستقلال و النزاهة و عدم الإنقياد لجهة حكومية أو أخرى فقد كرستهم هذه المراجعات كتيار إسلامي جديد, قد يكون له شأنه و تأثيره مستقبلا لو نشط هؤلاء في الواقع السياسي و الإسلامي و بلوروا استراتيجية عمل ناضجة و سلكوا لتحقيقها أساليبا مناسبة, أما لو انزوى هؤلاء بعيدا عن الواقع السياسي و الدعوي معتزلين العمل السياسي كما هو الحال حتى الآن فسوف يطويهم النسيان و لن يكون لهم أي شأن يذكر في الشارع السياسي الاسلامي.