إذا قلت لعدد من الأشخاص العاديين ممن ليس لديهم أى إلمام فقهى كيف نمسح على الجورب عند الوضوء؟؟
ستجد إجابات على غرار التالى:
واحد: ولما نمسح عليه يجب خلعه وغسل الرجل فى الوضوء.
ثانى: المسح على الجورب ورد لكن كان زمان عشان هم الصحابة كانوا فى صحرا وكده وماعندهمش ماء ساخن ولا سخانات لكن مافيش مسح على الجورب فى الوضوء الآن.
ثالث: المسح على الجورب وارد وطريقته تمسح عليه كله بحيث تغطى بالمسح كل مكان يجب غسله من قدمك فى الوضوء.
ونفس الشيء بالنسبة للتيمم كبديل عن الغسل من الجنابة ستجد التالى:
واحد: ازاى تيمم يعنى بدل غسل الجنابة.. يعنى ازاى أغطى جسدى كله بالتراب ثم يردف: جايز أعفر جسدى كله.
ثانى: لا ماينفعش .. وبعدين الصحابة فى عصر غير العصر ازاى يعنى هاغتسل بالتراب.
وآخر تناقشه بأن التيمم هو ضربة واحدة على التراب ثم تمسح وجهك ثم كفيك ظاهرا وباطنا ويكفيك عن الغسل والوضوء بحالات حددها الشرع فإنه سيرد عليك: "طبعا ده مش منطقى خالص دى أكيد أحاديث مش موثوقة أو مدسوسة"
فهل يا ترى لما هذا التخبط كله فى الإجابات؟
لأن لكل علم منهجية محددة، فالفقه له منهجية ومن منهجيته أن مصادر أو أدلة الفقه هى بالترتيب القرآن ثم الأحاديث المقبولة أو المحتج بها ثم الإجماع ثم القياس وسائر بقية المصادر القائمة على الاجتهاد، ومن منهجيته أنه لا اجتهاد مع وجود نص من كتاب أو صحيح السنة ولا يجوز مخالفة الإجماع الصحيح، ونصوص الكتاب والسنة حددت المسح على الجورب بغير ما قاله القائلون أعلاه وكذا حددت التيمم وشرعته بغير ما قال القائلون أعلاه، فالفقيه عند تعرضه لمسألة جديدة يبحث أولا فى الكتاب والسنة والإجماع فإن لم يجدها لجأ للقياس إن وجد حكما نص عليه كتاب أو سنة يشبه المسألة الجديدة وفقا لقواعد ومنهجية محددة..الخ وهكذا بقية طرائق الاجتهاد الفقهى وكذلك هناك التخريج الفقهى على مذاهب الفقه المدونة..الخ...
فالآفة فى رد البعض فى مثالى المسح على الجورب فى الوضوء والتيمم كبديل عن الغسل هى غياب التخصص والذى تغيب معه دائما المنهجية العلمية الخاصة بالعلم محل البحث أو محل المسألة المبحوثة.
وإذا كان من لديه معرفة فقهية كافية يتعجب وقد يتندر على الإجابات التى ذكرناها فى مسألتى المسح على الجورب أو التيمم فنفس الشئ هو رد فعل الملم بعلم السياسة إزاء الآراء السياسية العجيبة التى يعج بها واقعنا السياسى والإعلامى والسوشيل ميديا لأن السياسة علم له منهجيته الخاصة التى ينبغى سلوكها لإجراء تحليل علمى موضوعى لبناء رأى سياسى صحيح أو مناسب ومن مناهج البحث السياسى المنهج النظامى أو النسقى والمنهج الماركسى والمنهج التاريخى وغير ذلك، وكما أن معرفة عناوين منهج علم أصول الفقه وعلوم الحديث وحدها لا تكفى لأن تكون فقيها تصدر الآراء الفقهية للناس فكذا علوم السياسة والأمن القومى أو الدولى والاقتصاد والاجتماع والإستراتيجية العسكرية وغيرها، وكما أن الدراسة الخفيفة أو العابرة لأصول الفقه وعلوم الحديث والقواعد الفقهية لا تكفيك لتكون فقيها تصدر الفتاوى للناس بل لابد من التعمق في هذه العلوم بقدر وبأسلوب يكسبك ملكة التفكير الفقهى فكذا العلوم الاجتماعية المختلفة، وكما أن البحث فى الفقه يحتاج تدريب عملى على يد متخصصين فكذلك كل علم من العلوم الاجتماعية يحتاج أن تتدرب على يد متخصصين على البحث فيه وتطبيق منهجيته فى البحث والتفكير وحيازة ملكة التفكير فيه عبر متخصصين بالبحث معهم ومناقشتهم والمدارسة العلمية معهم.
ولا تقتصر أزمة تفكيرنا حاليا على نبذ المنهجية العلمية الخاصة بمجال ما أثناء إصدار الآراء فى هذا المجال بل زاد من حدة المشكلة انهيار التعليم فى أغلب دولنا العربية والإسلامية الذى جعل العملية التعليمية تخرج ذوى إجازات علمية (شهادات علمية) عليا ولكنهم جهال كأنهم لم يخوضوا العملية التعليمية أصلا، بجانب انعدام الأخلاقيات مما يجعل عالما يخالف أخلاقيات العلم ويمرق من الموضوعية والمنهجية العلمية عن عمد لتحقيق أغراضه الدنيوية بأساليب النفاق والانتهازية.
لهذا كله فما يجرى الآن هو فوضى فكرية وجهالة ترفع شعار العلم والبصيرة والوعى بينما هى تضليل وتسطيح فكرى بقصد وبغير قصد ولا يقوم بذلك أشخاص مغمورون فقط بل يقوم بهذه العملية رموز ومشاهير وأشخاص برزوا فى المجال العام لسبب أو لآخر ، قد يكون أحدهم اشتهر لأنه متخصص فى الحديث أو الفقه أو العقيدة فبرز لذلك فأخذ يفتى فى السياسة أو الاقتصاد أو الإستراتيجية العسكرية أو الأمن القومى أو الاقليمى أو الدولى بغير علم فيها، بالضبط كما قد يكون اشتهر لأنه متخصص فى السياسة الوضعية فقط فيفتى فى الفقه أو العقيدة بغير علم، أو اشتهر لأنه إعلامى فقط فيفتى بغير علم فى أى من علوم الدين أو العلوم الاجتماعية المختلفة والمذكور أكثرها آنفا.
ورغم أنه كان هناك حرية فكر وحرية رأى بكافة عصور ازدهار الحضارة الإسلامية وكانت تقترب قليلا فى بعض الأحيان من الفوضى الفكرية إلا أن هذه الحرية الآن تعدت حاجز الفوضى وفاقته وباتت تضرب محاولات إحياء الأمة وبعث النهضة الإسلامية فى مقتل لأن فى الماضى كان للأمة رؤوس سياسية وعسكرية وفقهية معروفة و موثوقة يحتكم لها عوام الناس لمعرفة الصحيح من الخاطئ من الآراء وتقييم الاجتهادات التى تطلق فى المجال العام ولذلك نجد العالم الأصولى محمد بن على الشوكانى يشرح كيف يُعرَف المجتهد (أى المفتى) فيقول: "إذا تقرر لك أن العامي يسأل العالم، والمقصر يسأل الكامل، فعليه أن يسأل أهل العلم المعروفين بالدين، وكمال الورع، (ويسأل) عن العالم بالكتاب والسنة... حتى يدلوه عليه... فيسأله عن حادثته طالبا منه أن يذكر له فيها ما في كتاب الله، أو ما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فحينئذ... يستفيد الحكم من موضعه، ويستريح من الرأي الذي لا يأمن المتمسك به أن يقع في الخطأ، المخالف للشرع، المباين للحق، ومن سلك هذا المنهج، ومشى في هذا الطريق، لا يعدم مطلبه، ولا يفقد من يرشده إلى الحق"أ.هـ (إرشاد الفحول لتحقيق الحق من علم الأصول، ط دار الكتاب العربى 1419، ج2 ص250) فهو يتكلم عن واقع فيه رموز ثقات فى دينهم وورعهم يمكن الاستدلال برأيهم وكلهم من أهل العلم الجديرين بالإتباع، لكن اليوم كم من رمز جماهيرى شهير من أى تيار فكرى ينتصب للإفتاء فى أى شأن عام فقهى أو عقيدى أو سياسى أو اقتصادى أو اجتماعى أو عسكرى أو أمنى ويطلق كلاما بمنتهى السطحية والتفاهة والجهالة ولا يستند إلى منهجية علمية ورغم هذا لا يوجد من يتصدى له ويفضح أخطاءه أو ضلالاته وحتى لو انبرى له خبير لبيان الحق فلا يسمع أحد لهذا الخبير لأنه ليس رمزا مرموقا مثل المتكلم وليس له أتباع مثل المتكلم.
وهذا كله من مظاهر أن الأمة الإسلامية والعربية صارت فوضى لا سراة لها حينا وفى أغلب الأحيان نجد أن جهالها هم من سادوا مصداقا لقول الشاعر العربى:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
ولا سراة لهم إن جهالهم سادوا
ومن هنا فإننا ننصح أبناء الصحوة بالتالى:
أولا- من تخصص فى الفقه وتضلع منه وصار لديه ملكته بما فى ذلك القياس بكل أنواعه ومراعاة المقاصد والموازنة بين المصالح والمفاسد وتقدير المآل وفهم مواضع الضرورة كلما وردت ثم أراد إصدار رأى فى السياسة المعاصرة فعليه الاستماع جيدا أولا لمتخصصين من مدارس سياسية مختلفة أى منتمين لكافة التيارات السياسية ومستقلين ومن يحلل عبر المنهج النسقى ومن يحلل عبر المنهج الماركسى أو عبر المنهج التاريخى.. الخ على أن يستمع لقولهم باهتمام ويدرس ما قالوه بتجرد قبل أن يصنع رأيا فى المسألة ويعلنه للجمهور.
ثانيا- لا مناص لغير المتخصصين من التقليد فى النوازل ولكن يقارنوا ويقيموا بين الأشخاص قبل أن يقلدوهم ومقياس التقييم هو تصديق الأحداث لتوقعات وتحليلات الشخص التى أطلقها قبل أن تقع إذ تقع فى أغلب الأحيان وفق توقعاته بجانب إثبات الأحداث لسلامة المسلك الذى أوصى به للتعامل مع الواقع مما يدل على موضوعيته وصحة منهجيته العلمية بجانب تجرده لمبادئ سامية وعدم تفريطه فى العلم والموضوعية من أجل الدنيا على الأقل وفقا للحد الأدنى، وهذا بشأن العلوم الاجتماعية أما الفقه فمواقفه وأخلاقه السلوكية العامة بغالب أحواله وعدم ابتغائه الدنيا متوسلا بالدين فكلها مظاهر تشير إلى أنه محل ثقة كى يؤخذ برأيه الفقهى، قال ابن السمعاني: "المفتي من استكمل فيه ثلاث شرائط: الاجتهاد، والعدالة، والكف عن الترخيص والتساهل"أ.هـ إرشاد الفحول، م.س.ذ، جـ2 ص 247.
ثالثا- ليعلم جميع المسلمين أنهم حراس على ثغور الإسلام وكل أبواب العلم هى من هذه الثغور كما كتبنا وأوضحنا هذا هنا من قبل (بعنوان: أبواب مهجورة من العمل في سبيل الله) فليهتم كل منا بثغره الذى هو عليه وإياك ثم إياك أن تُؤتَى أمة الإسلام من قبل الثغر الذى تحرسه أنت.