خواطر كاتب اسلامى حول ثورة 23 يوليو 1952م

بقلم عبد المنعم منيب | 23 يوليو, 2009
جمال عبد الناصر
جمال عبد الناصر

ارتبطت ثورة 23 يوليو 1952 باسم جمال عبد الناصر فما إن يتم ذكر الثورة حتى يتم ذكر عبد الناصر، فقد مرت الثورة بأطوار عدة أفضت إلى اختزالها بالزعيم أو إن أردت تخفيف التعبير قل توحدها مع الزعيم فصارت الثورة هي الزعيم و الزعيم هو الثورة ، و من هنا يأتي تناولنا لشخصية و سياسات جمال عبد الناصر زعيم الثورة من وجهة نظر الاسلاميين تحديدا من باب تناول إنجازات و إخفاقات الثورة التي هي في التحليل الأخير إنجازات و إخفاقات الزعيم أيضا.

 

ارتبط جمال عبد الناصر في أذهان الاسلاميين بكافة اتجاهاتهم بأنه عدو للاسلام كشريعة و عقيدة باعتباره كان تابعا لجماعة الاخوان المسلمين قبل الثورة و قام بالثورة لحسابهم أو على الأقل بمساندتهم و بعد ذلك خانهم و انقلب عليهم فسجنهم و نكل بهم أبشع تنكيل كما قام بالاجهاز على ما كان تبقى من استقلال مؤسسة الأزهر و ألغى القضاء الشرعي و ضيق على الجمعيات الاسلامية بل ألغى معظمها كما رسخ للعلمانية في مصر و اتخذ من النموذج الغربي في الحياة نبراسا لنظام حكمه خاصة النموذج الماركسي بسبب تحالفه مع الاتحاد السوفيتي السابق و كتلته الشيوعية، و في نفس الوقت فشل في النهوض بالبلاد ليصير لها مكانتها بين الدول المتقدمة على مستوى العالم و كان من نتيجة ذلك تدهور الاقتصاد و الانكسار العسكري مرتين واحدة في حرب 1956 و الثانية في كارثة 1967، و يرى الاسلاميون أن عبد الناصر عوضا عن تحقيق نهضة حقيقة استغل آلته الاعلامية الضخمة في بناء زعامته في مصر و العالم العربي على أسس و انجازات وهمية انساق وراءها جماهير غلب عليها عدم الوعي بمساوئ الديكتاتورية الناصرية و ما جرته على الأمة من هزائم على الأقل في مواجهة اسرائيل.

 

كما رأى بعض المحللين الاسلاميين أن عبد الناصر جاء انقلابه العسكري بمساندة أمريكية بهدف احتواء ثورة شعبية كان الشعب المصري مهيأ لها و كان من المتوقع أن يتزعمها الاخوان المسلمين أكبر تنظيم اسلامي و سياسي في مصر في ذلك الوقت.

و في الواقع فإن في تصوارات الاسلاميين عن جمال عبد الناصر و ثورته و عهده العديد من الأراء التي جانبها الصواب بسبب اعتمادها على الاطلاق و التعميم في الأحكام السياسية و الاقتصادية و أيضا في التحليل و اغفالها لأهمية تقسيم الأحداث و الحكم عليها بأحكام جزئية و تحليلها بشكل نسبي و بشكل فيه مقارنة مع العديد من الأحداث المشابهة في الداخل و الخارج، و سنلاحظ ان نفس الفخ وقع فيه الناصريون و القوميون في حكمهم على عصر عبد الناصر أو في حكمهم على الحركات الاسلامية خاصة الاخوان المسلمين.

حقيقة كانت مصر مهيئة لثورة شعبية في نهاية الأربعينات و أوائل الخمسينات من القرن الماضي، و حقيقة لم يكن هناك من القوى الوطنية من يملك رؤية سياسية تؤهله لقيادة مثل هذه الثورة غير الاخوان المسلمين و يليهم (بحجم تنظيمي أقل) الماركسيين، و لكن كلا التيارين كان عنده مشكلاته و تعقيداته الداخلية التي منعته من استثمار الموقف، و جمال عبد الناصر و تنظيمه من الضباط الأحرار كان أيضا من القوى الوطنية، كما ان جمال عبد الناصر تحديدا أجاد قراءة الواقع المصري و ما به من فرص الثورة قراءة سياسية و استراتيجية صحيحة مكنته من التعامل مع هذا الواقع بنجاح أدى في النهاية لنجاح ثورته و تفرده بالحكم بدرجة أو بأخرى.

لم يكن عبد الناصر إسلاميا من الاخوان المسلمين و لم يكن ماركسيا لكنه كان وطنيا برجماتيا تمكن من اقتباس العديد من أطروحات سائر القوى السياسية النظيفة في ذلك الوقت من كافة الاتجاهات و كون منها مزيجا صار فيما بعد هو ثورة يوليو و نظامها وفق نكهة و بصمة جمال عبد الناصر بجانب تأثير رؤى بعض من حوله من ساسة و مفكرين و صحفيين و ضباط جيش و غيرهم، كانت علاقات عبدالناصر تحديدا بكل من الاخوان و الماركسيين علاقات تكتيكية بحتة، و كونهم لم يفهموا ذلك فذلك يحسب نجاحا لبرجماتية جمال عبد الناصرو قدرته على الغموض و المناورة أكثر من كونه أي شئ آخر، هذا اذا كنا وضعنا الكلام عن اخلاقيات الصدق و الوفاء جانبا بحسباننا نتكلم عن رجل برجماتي لا صلة له بسياسة عقائدية لها أسسها الاخلاقية سواء كانت اسلامية أم غيرها.

أما كلام كل من تكلم عن إنشاء عبد الناصر لآلة اعلامية جبارة صنعت زعامته في مصر و العالم العربي ففيه صدق و فيه أيضا مبالغة، فعبد الناصر لم يكن رجلا تافها ليس له أي إنجازات سوى ما صوره إعلامه، صحيح هو اهتم بالإعلام و أنشأ آلة اعلامية جبارة روجت لزعامته و إنجازته لكن الرجل كان له انجازات كبرى في مصر و العالم العربي و العالم الثالث.

 في مصر على المستوى الاقتصادي و الاجتماعي فعبد الناصر استفاد من الميول الاجتماعية لدى الماركسيين الذين احتك بهم قبل ثورة يوليو كما استفاد من سائر أفكار القوى السياسية ذات الرؤى الاجتماعية و الاقتصادية كمصر الفتاة و الاخوان المسلمين و المفكرين و الكتاب المستقلين الذين ماجت بهم مصر عشية ثورة يوليو 1952، فلا يمكن إنكار انجازات عبد الناصر في مجالات التعليم سواء بالتوسع في انشاء المدارس و الجامعات أو في مجال إقرار مجانية التعليم، كما لا تخفى انجازاته في مجال الصناعة بتشييده صروحا صناعية ضخمة و لا في مجال إعادة توزيع الثروة بطرق مختلفة و في مجالات مختلفة، و في مجال إعادة توزيع الأراضي الزراعية بعدما كان 2% من ملاك الأراضي الزراعية يملكون 98% من الأراضي الزراعية بينما يملك 98% من الملاك 2% من الاراضي الزراعية، كما لا يمكن إنكار ما قام به في مجال تمصير الاقتصاد المصري بعدما سيطرت عليه القوى الراسمالية الاحتكارية الدولية، و حتى في المجال الذي فشل فيه فشلا ذريعا و هو المجال العسكري فلا يمكننا إنكار انه وضع أسس بناء جيش كبير و قوي ممهدا بذلك لنصر أكتوبر 1973.

كما أن عبدالناصر ساهم في مساندة حركات التحرر الوطني في العالم العربي و العالم الثالث، كما ساند الأنظمة المناهضة للامبريالية الغربية و تعاون معها، و ذلك كله يمثل في التحليل الأخير نفوذا مصريا في هذه الدول التي ساندها و من شأن هذا النفوذ أن يدر على مصر مصالح و مكاسب سياسية و اقتصادية كبيرة فضلا عن تعظيم ذلك كله لدور مصر الإقليمي و الدولي على حد سواء و من ثم الحفاظ على مصالح مصر على المستويين الإقليمي و الدولي دون كبير عناء.

لكننا لو اكتفينا بهذا التقييم العام لفترة الرئيس جمال عبدالناصر سنكون وقعنا في الفخ التحليلي الذي أشرنا إليه في بداية الموضوع و هو الفخ الذي يقع فيه كثير من الناصريين و القوميين و الاسلاميين إنه فخ التعميم و عدم المقارنة.

فلو سردنا سلبيات عبدالناصر و عممنا الحكم على كل أعماله بالسلبية انطلاقا من هذا لأخطانا و لو سردنا ايجابياته و عممنا الحكم بالإيجاب على كل أعماله لأخطأنا.

لو قارنا جمال عبد الناصر بالزعامات التي لم تنجز مثل ما أنجز في العديد من الدول العربية في الماضي و الحاضر لجعلنا لعبد الناصر مجدا لا يضاهيه مجد، و لما تمكنا من تفهم العديد من أخطائه و سلبياته، و لو قارنا ما فعله عبد الناصر بما أنجزته بلاد كالصين و الهند مثلا في نفس الفترة التي حكم فيها عبد الناصر مصر لوضعنا عبد الناصر في الحضيض.

عبد الناصر كان ديكتاتورا لكنه لم يقم بإنجازات الصين التي حكمتها ديكتاتورية في نفس الفترة تقريبا و في ظروف أشد قسوة من ظروف مصر عبد الناصر، أما الهند فقد بدأت استقلالها و نهضتها في وقت قريب من ثورة يوليو لكنها اختارت الديمقراطية و أنجزت انجازات تفوق ما قام به عبد الناصر بكثير.

من منظور إسلامي لابد أن يكون العدل هو معيار اي تقييم مهما كان بغضنا للشخص أو الموضوع الذي نقيمه، قال تعالى: " و لا يجرمنكم شنئان قوم ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى" ، عبدالناصر له انجازات ملموسة و عديدة كما له سلبيات ملموسة و عديدة، و لابد من تقييم كل منها تقييما علميا و موضوعيا للاستفادة منها.

كما أن هناك العديد من الأمور التي قام بها عبدالناصر لابد من تبيين الموقف الإسلامي منها بوضوح لأنها بدأت تفرض نفسها على واقعنا المعاصر مثل سوء توزيع الثروة و مثل ديكتاتورية الحكم و قمع الحريات و غير ذلك، فعلى سبيل المثال في الفقه السياسي الاسلامي لا يوجد شئ اسمه شرعية ثورية فكل شئ يخضع للشريعة الاسلامية عبر القضاء الذي يتحتم أن يكون مستقلا، فلا يوجد في الفقه الاسلامي شئ اسمه قضاء يتقيد بأي شئ سوى الشريعة الاسلامية و قواعدها و مقاصدها فالقضاء يجب أن يكون مستقلا تماما و لا تأثير عليه من أحد.

كذلك في مجال الاحتكار يتحتم على الدولة التدخل لمنعه و ارجاع الأسعار لوضعها المعتاد و الطبيعي، كذلك في مجال اعادة توزيع الثروة فمجال التأميم و المصادرة هو مجال ضيق جدا و تحكمه أحكام القضاء بشكل أساسي لكنه فعال جدا لأن الشريعة لا يمكن أن تضفي أي مشروعية على أي مال حرام أو تربح من المنصب الحكومي أو السلطة أو الغش أو الخداع أو الاحتكار أو حتى الامتناع عن الزكاة و نحو ذلك.

أما الديكتاتورية فهي أم المصائب و لا يقرها الفقه السياسي الاسلامي و النموذج الأمثل للحكم حسب هذا الفقه هو نموذج عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الشورى و العدل و الشفافية.

و هكذا فإن جمال عبد الناصر و ثورة يوليو لا بد من استخلاص الدروس و العبر من سلبياتهما و ايجابياتهما مع تبيين رأي الفقه السياسي الاسلامي في القضايا التي يثيرها عصر عبد الناصر بدلا من تمجيده أو ذبحه.