منذ عزل الرئيس عمر حسن البشير من الحكم في 11 أبريل 2019 فإن الساحة السياسية في السودان تموج بصراعات سياسية ملتهبة.
لقد جاءت عملية عزل البشير استجابة لموجة متنامية وممتدة من المظاهرات الجماهيرية التي اندلعت بسبب الأزمات الاقتصادية الطاحنة التي سحقت بين رحاها احتياجات الشعب السوداني في السنوات الأخيرة من حكم عمر البشير الذي استمر لثلاثين عامًا متتابعة، وقد بدأت الاحتجاجات الشعبية ضده في 19 ديسمبر 2018 واستمرت حتى قام الجيش السوداني بعزله في 11 ابريل 2019.
وبعزل الرئيس السوداني السابق عمر البشير لعب العسكريون دورًا بارزًا في الحكم بأشكال مختلفة في إطار من الصراع السياسي المتأجج بين مختلف القوى السياسية التي يسعى بعضها للهيمنة على حكم البلاد.
وأيًا كانت طبيعة الصراع السياسي في السودان بعد سقوط حكم الفريق عمر حسن البشير، فإننا نريد في هذا التحليل أن نسلط الضوء على جانب واحد محدد من جوانب هذا الصراع وهو الخاص بما يمكن تسميته بالصراع الإسلامي العلماني وهو الصراع بين التقاليد الاجتماعية لأغلبية السودانين ذات الطبيعة الإسلامية وبين محاولات تغريب هذه التقاليد عبر ترسيخ التقاليد الأوروبوأمريكية في مجال السلوكيات الفردية والاجتماعية بين السودانيين، وربما قد يظن البعض أن مثل هذا السعي لتغريب مجتمع عربي أو إسلامي هو أمر معتاد من قبل بعض القوى المجتمعية وثيقة الصلة بالغرب وهو قائم على قدم وساق في أغلب بقاع العالم الإسلامي منذ بدايات هيمنة الإمبريالية الغربية على العالم الإسلامي -بل والعالم كله- منذ القرن الثامن عشر الميلادي، وبالتالي فما الجديد في هذا؟
في واقع الأمر فإن الحالة مختلفة في السودان ليس فقط لأن السودان مجتمع تقليدي محافظ ولكن لأن السودان له تاريخ طويل من محاولات تطبيق الشريعة الإسلامية في القانون والقضاء والمجتمع، فقد تحالف الرئيس الأسبق جعفر النميري مع التيار الإسلامي بزعامة الدكتور حسن الترابي وأعلن تطبيق الشريعة الإسلامية في قوانين الدولة عام 1983، ثم طوال الـ30 عامًا التي حكمها عمر البشير استمر تطبيق الشريعة حيث جرت أغلب القوانين وفق قواعد الشريعة الإسلامية وأحكامها، كما حوت المراحل التعليمية من الابتدائي إلى نهاية الإعدادي نحو ثلث القرآن الكريم كمقرر إلزامي فيتخرج الطالب حافظًا لـ8 أجزاء من القرآن الكريم.
وعندما بدأ تحالف قوى الحرية والتغيير المعروف اختصارًا باسم "قحت" في ممارسة الحكم بالشراكة مع قادة الجيش الذين أطاحوا بنظام عمر البشير فإن أحد أبرز أهدافهم المعلنة كان "تفكيك نظام عمر البشير وحزبه" بدعوى أن هذا النظام يمثل قوى الثورة المضادة، وربما كان هذا الهدف له قبوله الشعبي في البداية، وذلك لسببين:
السبب الأول- أن قوى الحرية والتغيير "قحت" رفعت شعار تغيير النظام للخروج من الأزمات التي عانى منها الشعب.
السبب الثاني- أن هذا الشعار هو شعار مجمل لا يمكن فهم أبعاده الحقيقية غير عند تطبيقه عمليًا في الواقع على الأرض.
إن تحالف قوى الحرية والتغيير "قحت" في البداية كان مكونًا من عدد من القوى السياسية المعارضة لنظام البشير، وأبرزها: حزب الأمة القومي، والحزب الاتحادي، والحزب الشيوعي، وحزب البعث، والحزب الجمهوري، حزب المؤتمر السوداني.
لكن مع مرور الوقت بدأت بعض القوى السياسية –من أعضاء التحالف وغيرهم- تشكو من هيمنة الحزب الشيوعي على توجيه "قحت" وسياساتها العامة، وبمرور الوقت أيضًا حدثت العديد من الأحداث التي استثارت المجتمع السوداني المحافظ وفي القلب منه القوى الإسلامية من الحركات الإسلامية المعروفة مثل أنصار السنة أو حزب المؤتمر الوطني (حزب عمر البشير) الذي صار يطلق عليه مسمى الحركة الإسلامية أو التيارات الإسلامية التقليدية مثل الصوفية.
ونجد في هذه الأحداث محطات رئيسة بارزة على النحو التالي:
- أصدر وزير العدل السوداني نصرالدين عبدالباري القرار رقم (47) لعام 2020 القاضي بتشكيل لجنة لتعديل قانون الأحوال الشخصية وشعر السودانيون، من الحركات الإسلامية ومن القوى التقليدية على حد سواء، خطورة التعديلات التي تسعى لها حكومة قحت فعارضوا إي تعديل لقانون الأحوال الشخصية باعتباره ملتزم بأحكام الشريعة الإسلامية بينما أشار النقاش المصاحب لقرار السعي للتعديل طرح إلغاء شرط الولاية في عقد الزواج والعديد من الجوانب الأخرى التي تهدف لتضمين اتفاقية "سيداو" الدولية الخاصة بحقوق المرأة ضمن القانون الجديد لإرضاء القوى الأوروبوأمريكية، رغم أن معظم الدول الإسلامية تقريبًا تحفظت على اتفاقية "سيداو".
- في مارس 2020 أجرى وفد من لجنة الحريات الدينية بالولايات المتحدة الأمريكية مناقشات مع مسؤولين سودانيين لحذف مادة الردة من القانون الجنائي السوداني، فضلاً عن أنهم أجروا مناقشات واسعة حول ما أسموه بالحريات الدينية والقوانين في البلاد، وتلا ذلك في يوليو 2020 إجراء تعديلات سريعة على القانون الجنائي السوداني الذي لم يتغير منذ إقراره عام 1983 عندما أقرت الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع، وكان الأمر مثارًا لدهشة كل القوى الإسلامية والتقليدية حيث لم يتم تغيير هذا القانون حتى في ظل مشاركة الحركة الشعبية العلمانية (بقيادة جون جارنج) في الحكم لعدة سنوات سابقة، كما كانت قوى "قحت" هذه تطالب سابقًا حكومة عمر البشير بعدم فرض الإسلام عن طريق أجهزة الدولة والعودة للمجتمع، بينما أصبحوا هم يفرضون العلمانية وقناعاتهم اليسارية على السودانيين اليوم عن طريق أجهزة الدولة وسلطانهم رغم أنهم غير منتخبين من الشعب، وبالطبع لم تجدِ معارضة القوى الإسلامية نفعًا في عرقلة هذه التعديلات.
-وشملت التعديلات القانونية إلغاء عقوبة الردة وإباحة المشروبات الكحولية لغير المسلمين، وإباحة سفر المرأة بأولادها للخارج دون إذن زوجها، وفي الوقت الذي عارضت القوى الإسلامية هذه التعديلات من منطلق إسلامي معتبرًا أن التعديلات جاءت مخالفة لقوانين الشريعة الإسلامية، وأنها حرب على الدين الإسلامي، وأن الثورة لم تأتِ من أجل إجراء تعديلات قانونية تشمل إباحة الدعارة والخمور، ومن جهة أخرى فإن بعض العلمانيين السودانيين عارضوا تعديل قانون الكحوليات لأنه يفرق بين المسلم وغير المسلم فهو مجافٍ للمساواة حيث مازال يحرم المشروبات الكحولية على المسلم بحسب رأيهم، مع ملاحظة أن نسبة غير المسلمين في السودان هي 3% بحسب تقدير الأمم المتحدة.
-جاءت محطة تغيير المناهج التعليمية أيضًا كأحد محطات الصدام بين القوى الإسلامية والتقليدية من جهة وقوى "قحت" الحاكمة من جهة أخرى، حيث شهدت السودان في أوخر عام 2020 وبدايات 2021 ثارت أزمة تعديل المناهج التعليمية ورغم أن قحت أسندت رئاسة لجنة تطوير المناهج التعليمية لـ"عمر القراي" وهو منتمٍ لحزب أبسط ما يوصف به أنه حزب لا علاقة له بالإسلام لاسيما، وأن مؤسس الحزب قد أعدم في عصر النميري بتهمة الردة، ورغم اللغط الذي أثارته قضية تطوير المناهج، فإن حادثة محددة أقامت السودان ولم تقعدها مما اضطر عبد الله حمدوك رئيس الوزراء لقبول استقالة "عمر قراي" في يناير 2021 بعد أن تضمن تعديل المناهج نشر صورة منسوبة -عياذًا بالله- لله عزوجل تحت شعار الفن العالمي وهي لوحة "خلق آدم" للرسام الإيطالي مايكل آنجلو وهي تحوي تجسيدًا للذات الإلهية ولنبي الله آدم عليه السلام، وقد هاجمت القوى الإسلامية وأغلبية السودانيين لجنة تطوير التعليم التي ألغت أغلبية سور القرآن المقررة في كافة المراحل الدراسية وبجانب انتقادات جماعة أنصار السنة وغيرها للجنة فقد أيدت هيئة "الختمية" أكبر الطوائف الصوفية بالسودان قرار رئيس الوزراء بتجميد التعديلات على المناهج الدراسية، معتبرة أنه "يحسم الفتنة ويئدها في مهدها".
وبشكل عام فإن كثيرًا من السودانيين يرون أن تيارات سياسية وفكرية يسارية وعلمانية تهيمن على قحت وتسعى لترسيخ فكرة أن ثورة السودانيين هي ثورة للتحرر من سيطرة "الإسلاميين" وأنها ثورة ضد "الدولة الدينية" وليست ثورة ضد الديكتاتورية والاستبداد، وذلك لخدمة أجندتهم الخاصة المرتبطة بالقوى "الأوروبوأمريكية".
ومن هنا فإن القوى الإسلامية والمحافظة في السودان تكافح ضد محاولات علمنة المجتمع على جبهتين:
الأولى-جبهة محاولة قحت وحلفائها فرض عملية تغيير اجتماعي وثقافي سريع وفرض القيم الغربية المضادة للإسلام على السودانيين.
الثانية-الصراع السياسي حيث تسعى قحت وحلفاؤها للسيطرة على مفاصل الدولة بدعوى إزالة التمكين للنظام السابق حيث تقوم بفصل الآلاف من كبار موظفي الدولة ومصادرة أملاكهم بدعوى أنهم من مؤيدي نظام البشير وبالطبع فإن من سيحل محلهم سيعين عبر قحت نفسها مما يمكن لحكم قحت نفسها رغم أنها غير منتخبة من الشعب السوداني.
وعملية إزالة التمكين ما زالت مثار خلاف دائم منذ 2020 وحتى اليوم بين قحت والقوى العسكرية الشريكة في الحكم؛ لأن قحت لم تكتفِ بفصل الموظفين من مؤسسات الدولة وإحلال من تريدهم محلهم بل تسعى أيضًا إلى أن تمد يدها بنفس الأسلوب إلى داخل المؤسسات العسكرية والأمنية في السودان وهو ما ظل الفريق عبد الفتاح البرهان ورفاقه العسكريون يرفضونه قائلين إنهم لن يسلموا هذا المؤسسات الأمنية غير إلى قيادة سياسية منتخبة من الشعب.
وهكذا نرى كفاح القوى الإسلامية لـ"قحت" على المستوي الشعبي، في حين يتصدى لـ"قحت" قوى أخرى على مستوى مؤسسات الدولة ومراكز الحكم، فإلى أين تقر الأمور في السودان؟؟
ولا تزال الساحة السودانية تموج بالمتغيرات والتداخلات الإقليمية والدولية، غير أن مستقبل السودان هو موضوع مهم للمنطقة العربية وما يجري بها من أحداث على مسارات مختلفة. وهو ما سنتناوله في وقفات تحليلية تالية تخص الشأن السوداني إن شاء الله تعالى.