المسلمون و محرقة غزة ... بين العجز و الدعاء

بقلم عبد المنعم منيب | 15 فبراير, 2009
صورة أرشيفية .. المسلمون يدعون الله
صورة أرشيفية .. المسلمون يدعون الله

عندما تسلط الجيش الإسرائيلي بآلته الحربية الطاغية على أهالي غزة بالقتل و الحرق و الدمار انقسم العالم الاسلامي إلى معسكرين معسكر الحكام و معسكر الشعوب, و تخاذل الحكام و وقفوا موقفا متواطئا مع إسرائيل و من تعاطف منهم مع الفلسطينين تعاطف بالقول فقط, و نظرا لأن الشعوب لا تملك شيئا في صنع قرار بلادها ولا تملك أن تعمل أي عمل حقيقي يمثل مساندة إيجابية فعالة لأهالي غزة كتحريك الجيوش أو قطع البترول عن الدول التي تساند إسرائيل أو إمداد المقاومة بالسلاح, فإن ذلك كان حافزا لأن يجتهد المسلمون بالمساجد في الدعاء على إسرائيل.

و الدعاء على الأعداء و المعتدين أمر مشروع في الإسلام و فعله النبي صلى الله عليه و آله و سلم كما فعله الأنبياء من قبله. فنبي الله نوح عليه السلام أخبر عنه القرآن أنه دعا على الكافرين من قومه فقال تعالى " وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً{26} إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً{27}" (سورة نوح)و دعا موسى على فرعون و قومه قال تعالى " وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ" (يونس88)كما دعا النبي محمد صلى الله عليه و آله و سلم على أعدائه في العديد من المواقف ففي مرة دعا على قريش بأن تحيق بها ازمة إقتصادية كالتي حاقت بأهل مصر في عصر يوسف عليه السلام فقد روى البخاري عن عبدالله بن مسعود قال: " إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى مِنْ النَّاسِ إِدْبَارًا قَالَ اللَّهُمَّ سَبْعٌ كَسَبْعِ يُوسُفَ فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَكَلُوا الْجُلُودَ وَالْمَيْتَةَ وَالْجِيَفَ وَيَنْظُرَ أَحَدُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَى الدُّخَانَ مِنْ الْجُوعِ فَأَتَاهُ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ تَأْمُرُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَبِصِلَةِ الرَّحِمِ وَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا فَادْعُ اللَّهَ لَهُمْ".كما دعا النبي صلى الله عليه و آله و سلم على قبائل عربية أخرى حاربته أو ناصبته العداء و قتلت أصحابه و دعا على قبائل يهودية لنفس الأسباب, لكن العلماء حددوا إطارا و ادابا للدعاء و ذلك جمعا بين ألفاظ و مناسبات الأحاديث الخاصة بأمور الدعاء فقال إبن حجر في تعليقه على الحديث المذكور في الدعاء بالقحط و الأزمة الإقتصادية على قريش: " الدُّعَاء عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِالْقَحْطِ يَنْبَغِي أَنْ يُخَصّ بِمَنْ كَانَ مُحَارِبًا دُون مَنْ كَانَ مُسَالِمًا" (فتح الباري شرح صحيح البخاري جـ3 ص 439).و ذلك لأن هناك روايات في دعاء النبي صلى الله عليه و آله و سلم على قبائل مضر دعا فيها لبعض قبائلها مثل حديث أبي هريرة :"أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ يَقُولُ اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ اللَّهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ غِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ قَالَ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ هَذَا كُلُّهُ فِي الصُّبْحِ" (البخاري حديث 951) و لذلك اورده البخاري في نفس الباب ليضع الدعاء على الأعداء في إطاره الصحيح, فالدعاء هنا ليس على كل الكفار لكفرهم و إنما هو دعاء على الكفار المحاربين اما المسالم منهم فهذا ليس مجال الدعاء عليه.و من هنا فقد ثارت بعض المشكلات في صيغ الدعاء في بعض المساجد, فالمعتاد ان يدعو الإمام بالهلاك على ما يسميهم بـ "اليهود المعتدين" أو "اليهود المغتصبين", و لكن في قليل من الحالات ربما يقول الإمام "اللهم عليك باليهود الضالين أعداءك اعداء الدين" مثلا و في الواقع فهو لا يقصد في قلبه أن يدعو على كل يهودي في الأرض و إنما يقصد هؤلاء الذين يعتدون على الفلسطينين لكنه سبقه لسانه دون تركيز منه في مرامي اللفظ, و لكن بعض المصلين ذوي الثقافة السياسية ربما طمحوا أن يدعوا أئمة المساجد على الصهاينة فقط بإعتبار أن الصهيونية هي سبب ذلك العدوان و الإحتلال و ليس مجرد اليهودية و ان هناك يهود غير صهاينة, و لكن من الصعب أن يلم كل أئمة المساجد بهذا التفصيل لكن أكثرهم إن لم يكن جميعهم يدركون و يقصدون بدعائهم "اليهود المحتلين و من ساندهم في أي مكان في العالم" و لذلك يكثر على لسانهم لفظ "اليهود المعتدين" أو "اليهود المغتصبين", احترازا من اليهود المسالمين إن وجدوا.

و المسلمون هم دعاة بناء و ليسوا دعاة هدم لذلك فهم يأملون في هداية الخلائق جميعا و لذلك لما كان للنبي صلى الله عليه و آله و سلم راجعا من الطائف حزينا من سوء موقفهم من الإسلام و قبلها كان حزينا من موقف قريش المعاند "أرسل إليه ربه ملك الجبال فسأله أن يطبق على قومه الأخشبين فقال : بل استأني لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده" (رواه الطبراني عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب), فالمسلمون يميلون للتعاون و الحوار أملا في أن يفضي ذلك للإيمان أكثر من ميلهم للقتل و الصراع و الدعاء بهلاك الأعداء, لكن في أزمة غزة هذه وجد المسلمون أنفسهم بين نارين..نار الحكم المستبد في بلادهم الذي يمنعهم من نصرة أهل غزة و نار الإسرائيلين الذين يصلون أهل غزة نار الفسفور الأبيض و لا يملكون لها دفعا و لا دفاعا فلجأوا إلى الله يضجون إليه بالدعاء في المساجد كل صلاة, و هذا ليس عيبا إلا إذا ظنوا أنهم بمجرد قيامهم بهذا الدعاء قد فعلوا ما عليهم و تحللوا مما يجب عليهم من نصرة إخوانهم و نجدتهم من نار الإحتلال.

فالنبي صلى الله عليه و آله و سلم لم يكن يركن للدعاء فقط بل كان يتخذ تدابير عديدة من أجل تحقيق أهداف الدعوة فهو كان يتحرك بين الناس في مكة يدعوهم للإسلام و كان يعرض نفسه على قبائل العرب و سافر للطائف ليعرض على قادتها الإسلام و لما لم يأت ذلك كله بالنتيجة المرجوة هاجر للمدينة المنورة و أحدث فيها تنمية إقتصادية و بنى بها جيشه و أعاد تأسيس قواعد التكتيك القتالي بما لم يكن قد عرفه العرب في المدينة أو حتى في كل الجزيرة العربية, وحتى في غزوة بدر الذي إشتهر دعاؤه و إلحاحه في الدعاء فيها لم يقم بهذا الدعاء إلا بعد ان رتب الجيش و حدد لكل شخص موقعه و عمله في القتال و حدد خطة القتال و قطع الماء عن قريش و حصرهم في ارض غير مناسبة و بعد ذلك كله جلس يدعو الله أن ينصر جنوده.

و في غزوة الخندق حفر الخندق و حصن المدينة و وضع أهالي المدينة من النساء و الأطفال في قلاع و حصون المدينة و رتب لهم السلاح و الحراسات و حشد كل القادرين على حمل السلاح لحماية المدينة و حماية الخندق الذي يحميها ومع و بعد ذلك أخذ يدعو.

فالدعاء ليس وسيلة وحيدة و لا هو يخرج بصاحبه من دائرة المسئولية العملية بمجرد أن دعا بل الدعاء وسيلة من الوسائل.

و النبي صلى الله عليه و آله و سلم هو خير من دعا و هو أفضل من دعا و هو الأقرب إلى الله و مع ذلك لم يمت إلا و قد تحرك كثيرا و أوذي كثيرا بسبب حركته في الدعوة إلى الله و سجن و كاد يقتل بسبب ذلك كما حرك هجرتين للحبشة و هاجر إلى المدينة و عاد و فتح مكة و غزا و أرسل عشرات الغزوات في كل أنحاء الجزيرة العربية بل و غزا الروم.و من المشهور (كما جاء في البخاري و غيره) أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم رد عسكريا بسرعة على نقض قريش لمعاهدة الحديبية عندما ساندوا قبيلة بكر الكافرة في قتل اعدادا من قبيلة خزاعة المسلمة و لقد جاء عمرو بن سالم سيد خزاعة للنبي صلى الله عليه و آله و سلم بالمسجد النبوي فقال له:

يَا رَبّ إِنِّي نَاشِـد مُحَمَّـدًا حِلْـف أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا

فَانْصُرْ هَدَاك اللَّه نَصْرًاأَيَّـدَا وَادْعُ عِبَادَ اللَّهِ يَأْتُوا مَدَدًا

إِنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوك الْمَوْعِـدَا وَنَقَضُوا مِيثَاقَك الْمُـؤَكَّـدَا

هُمْ بَيَّتُونَا بَالْوَتِيرِ هُجَّـدًا وَقَـتَلُونَـا رُكَّـعًا وَ سُـجَّـدًا

وَزَعَمُواأَنْ لَسْت أَدْعُوأَحَدًا وَهُـمْ أَذَلُّ وَأَقَـلُّ عَـدَدًا

فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ردا على هذه الإستغاثة كلمة و احدة: "نُصِرَتْ يَا عَمْرو بْن سَالِم ", و جهز الحيش من عشرة آلاف مقاتل و فتح مكة, فكان نصره لقتلى مسلمي خزاعة بيد حلفاء قريش هو سحق قريش نفسها هي و حلفائها, و لم يكتف بالدعاء لخزاعة أو التبرع لها بالمال و الغذاء أو حتى السلاح. و عندما صعدت روحه صلى الله عليه و آله و سلم إلى بارئها كان جيشا مجهزا مستعدا يقف على اطراف المدينة ينتظر أمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم لينطلق ليغزو الروم إنتقاما لخسائر المسلمين في معركة مؤته مع الروم, فحتى و هو صلى الله عليه و آله و سلم في نزع الموت الأخير كانت جيوشه جاهزة للتحرك و لم يكتف بالدعاء و هو على فراش الموت بل كان مصمما و هو على فراش الموت على الإنتقام لقتلى المسلمين و كان كلما أفاق من سكرة من سكرات الموت يقول أنفذوا بعث أسامة, و لكن الصحابة لم يطاوعهم قلبهم بأن يغادروا المدينة و النبي  صلى الله عليه و آله و سلم في مرض شديد فتأخروا في حركتهم, و كان الصديق رضي الله عنه واعيا بهدي النبي صلى الله عليه و آله و سلم فأصر على إنفاذ أمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم بإرسال الجيش ليغزو الروم بعيد موت النبي صلى الله عليه و آله وسلم رغم ردة كل الجزيرة العربية و تآمرها على دولة الإسلام و قال قولته المشهورة "و الله لو لعبت الكلاب بخلاخيل أمهات المؤمنين بالمدينة ما حللت لواء عقده النبي صلى الله عليه و آله ".

فهكذا لم يكتف النبي صلى الله عليه و آله و سلم و خلفاؤه الراشدون رضي الله عنهم بالدعاء في مواطن الجهاد بل كان جهادهم قتالا بجانب الدعاء حتى و هم على فراش الموت.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منشور في المدونة القديمة 2009-02-15