الكيفية التي هيأ الله تعالى بها سيدنا محمد صلى الله عليه و آله و سلم لتلقي الوحي

بقلم عبد المنعم منيب | 20 أغسطس, 2010
صلى الله عليه و آله و سلم
صلى الله عليه و آله و سلم

لم ينزل الوحي على النبي محمد صلى الله عليه و آله و سلم الا بعد تهيئة من قدر الله تعالى, فعلى المستوى العام كان العالم محتاجا للنبي الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم كي ينقذه من الهاوية التي سقط فيها, و على مستوى النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقد كان صلى الله عليه و آله و سلم قد مر بالعديد من التجارب الانسانية و الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية هيئته بتقدير الله تعالى لتحمل أعباء الدعوة و قد تعرضنا لذلك تفصيلا في الاسبوع الماضي, و يأتي الآن الدور لعرض التهيئة الروحية و الأخلاقية التي قدر الله تعالي لنبيه أن يمر بها قبل البعثة و أثر ذلك بعد البعثة.

و لا شك أن البعد الأخلاقي في حياة النبي صلى الله عليه و آله و سلم يبرز واضحا نقيا في انسلاخه الحاسم عن كل ممارسات الجاهليين الغير أخلاقية التي كانت تعج بها الحياة العربية في المدن و الصحراء.. شربا للخمر و استمراء للزنا و لعبا للميسر و تصعيدا للربا و تهافتا على مال اليتيم ووأدا للبنات و ظلما للذين لا يقدرون على رد الظلم و استعبادا محزنا للذين لا يعرفون طعم الحرية .. ممارسات شتى لا يحصيها العد, كانت تجرى على مسرح الجزيرة العربية و مدينتها الكبرى "مكة" ليل نهار, و نظرا لتعاقبها و تكرراها فقد صارت كل هذه الأخلاق الذميمة عادات راسخة و تقاليد مستقرة, ثم تجاوزت هذا لكي تصبح مفاخر و مكرمات يتبارى العرب في الاتيان بالمزيد منها, و محمد صلى الله عليه و آله و سلم بعيدا عن هذا كله منسلخ منه .. و لقد منحه موقفه النبيل هذا نظافة و طهرا لم يعرفهما انسان قط, و علمه في الوقت نفسه كيف يكون الرفض و التمرد على الوضع الديني, الوضع الغير انساني مهما حمل هذا الوضع من تبريرات انتقلت به من كونه فسقا و اثما و فجورا إلى مرتبة العادات و القيم و المفاخر و المعتقدات الراسخة.

ويري عماد الدين خليل محقا أن البعد الروحي هو أشد الأبعاد ثقلا و خطرا في حياة الانسان, و الروايات القليلة التي تحدثنا عن عزلة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بعيدا عن صخب مكة و ضجيجها حينا بعد حين و عن انقطاعه إلى الصحراء و حيدا متأملا باحثا منقبا مقلبا وجهه في آفاق السموات و الأرض هذه الروايات تكفي لالتقاط الاشارة الأخيرة الحاسمة المتممة للصورة التي علينا أن نعرفها عن حياة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم قبل مبعثه, فكما علمه الانشقاق الأخلاقي عن الوضع المكي القدرة على الرفض و التمرد فقد جاء تغربه و عزلته و انقطاعه امتدادا نفسيا باتجاه آخر لكنه متمم, و بدونه لا يمكن لانسان ما أن يلعب دوره الحاسم الكبير.. انه امتداد باتجاه التهيؤ للاندماج و الاتصال بالوحي و مواجهة رفض الجاهلية و التمرد على قيادتها و اعرافها و سلطانها مع اندماج بالكون على انفساحه داعيا البشرية لهجرة مواضعها المنحرفة الخاطئة التي ساقتها إليها زعامات ظالمة و سلطات مستبدة و الوهيات زائفة, و أعراف و بيئات مليئة بالدنس و الوحل و الخطيئة, إنه تمهيد للاتصال بالسلطة الواحدة التي تشرف على الكون و تحرك الانسان و الخلائق في ساحاته .. سلطة السماء.

و في نفس الاطار (و إن بأسلوب مختلف) تأتي حادثة شق الصدر فقد بقي النبي صلى الله عليه و آله و سلم عند مرضعته حليمة في بني سعد حتى بلغ الرابعة أو الخامسة من عمره و عندئذ حدثت واقعة شق الصدر إذ آتاه جبريل و هو يلعب مع الغلمان فأخذه فألقاه على الأرض, فشق صدره و استخرج قلبه و استخرج منه علقة, فقال: هذا حظ الشيطان منك, ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم, ثم أعاد صدره كما كان ثم أعاد النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى مكانه, بينما كان الغلمان قد سعوا إلى حليمة فقالوا إن محمدا قد قتل, فلما جاءته وجدته صلى الله عليه و آله و سلم ممتقع اللون, و هذه الحادثة هي بلا ريب من المعجزات التي تعجز عقولنا و علمنا البشري عن ادراك حقيقتها في ميداني النفس و التشريح لأنها (كأي تجربة أو حدث روحي) لا تخضع لمقاييس العقل و الحس المحدود, يكفينا أن نلتقط منها رمزا او دلالة تغطي مساحة ما في صورة الأربعين سنة من حياة محمد صلى الله عليه و آله و سلم, يقول محمد الغزالي: "شئ واحد هو الذي نستطيع استنتاجه من هذه الأثار, ان بشرا ممتازا كمحمد صلى الله عليه و آله و سلم لا تدعه العناية عرضا للوساوس الصغيرة التي تتناوش غيره من سائر الناس, فإذا كانت هناك موجات تملأ الأفاق, و كانت هناك قلوب تسرع إلى التقاطها و التأثر بها, فقلوب النبين بتولى الله لها لا تستقبل هذه التيارات الخبيثة و لا تهتز لها, و بذلك يكون جهد المرسلين في متابعة الترقي لا في مقاومة التدني, و في تطهير العامة من المنكر لا في التطهر منه, فقد عافاهم الله من لوثاته".

و ما دمنا بصدد تحليل المؤثرات البيئية و الوراثية و الغيبية في تكوين الرسول صلى الله عليه و آله و سلم وتهيئته للرسالة, فإن حادثة شق الصدر تقف في القمة من المؤثرات جميعا, صياغة روحية مادية لشخصية النبي الانسان, و تهيئته من لدن العليم بأسرار النفوس الخبير بتعقيدات الشخصية البشرية .. لكي يكون محمد صلى الله عليه و آله و سلم بالذات ووفق تكوينه الموجه قادرا على التقاط اشارة السماء و مقابلة الوحي و تحمل المسؤولية رسولا للناس جميعا ليصعد بهم إلى القمم الشامخة التي تنقطع دونها أنفاس الرجال.

و من هنا أجمع جميع المؤرخين على أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان متميزا بحسن الخلق كصدق الحديث و الأمانة حتى سموه بالصادق الأمين, و كانوا يودعون عنده ودائعهم و أماناتهم, كما كان صلى الله عليه و آله و سلم لا يشرب الخمر و لا يأكل ما مما ذبح على النصب و لا يحضر للأوثان عيدا و لا احتفالا بل كان من بداية نشأته نافرا من هذه المعبودات الباطلة.

كما كان صلى الله عليه و آله و سلم يأكل من نتيجة عمله لأن أباه لم يترك له ثروة , و كانت التجارة هي عمله حين شب , و لما تزوج خديجة كان يعمل بمالها و يشركها في الربح و كان يشارك غيرها أحيانا.

و رغم ذلك كله فعندما بعث الله تعالى نبيه محمد صلى الله عليه و آله و سلم و أمره ان ينذر قومه و يدعوهم للاسلام و نزل قوله تعالى "و أنذر عشيرتك الأقربين" الشعراء 214, خرج رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم حتى صعد الصفا, فهتف بهم فاجتمعوا له , فقال "أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا, قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.

فقال: أبو لهب: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟

ثم انصرف و تبعه القوم, فنزلت سورة "تبت يدا أبي لهب".

و هكذا نجد ان الكفار لم تجد معهم أخلاق النبي صلى الله عليه و آله و سلم التي اشتهر بها بينهم من الصدق و الأمانة و حسن الخلق بل كذبوه و عاندوه الا قليلا ممن كتب الله لهم نعمة الاسلام.

و اشتدت قريش في عدائها للنبي صلى الله عليه و آله و سلم و أصحابه, أما رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فقد لاقى من ايذائهم أنواعا كثيرة من ذلك ما رواه عبدالله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما: بينا النبي صلى الله عليه و آله و سلم يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه و دفعه عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم و قال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله"

كما روى عبدالله بن عمر رضى الله عنهما قال: بينا النبي صلى الله عليه و آله و سلم ساجد و حوله ناس من قريش جاء عقبة بن أبي معيط بسلا جزور فقذفه على ظهر النبي صلى الله عليه و آله و سلم فلم يرفع رأسه فجاءت فاطمة رضى الله عنها فأخذته من على ظهره و دعت على من صنع ذلك".

و منه ما كانوا يواجهونه به من فنون الاستهزاء والسخرية و الغمز و اللمز كلما مشي بينهم أو مر بهم في طرقاتهم او نواديهم.

و من ذلك ماورد من أن بعضهم عمد إلى قبضة من تراب فنثرها على رأسه و هو يسير في بعض طرق مكة, و عاد إلى بيته و التراب على رأسه, فقامت إليه إحدى بناته تغسل عنه التراب و هي تبكي و رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يقول لها: يا بني لا تبكي, فإن الله مانع أباك.

و أما أصحابه رضوان الله عليهم فقد تجرع كل منهم ألوانا من العذاب حتى مات منهم من مات تحت العذاب و عمي من عمي, و لم يثنهم ذلك عن دين الله شيئا و لا تتسع المساحة لسرد الوان العذاب التي لاقاها كل منهم و ما قصص تعذيب بلال بن رباح و آل ياسر و غيرهم عنا ببعيد.

و قد يكفينا ما ذكره الخباب بن الأرت رضى الله عنه قال أتيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم و هو متوسد ببردة و هو في ظل الكعبة, و لقد لقينا من المشركين شدة فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله لنا؟ فقعد و هو محمر الوجه, فقال: لقد كان من كان من قبلكم يمشط بأمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه, و ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف الا الله و لكنكم قوم تستعجلون".

و بالاضافة لحسن خلقه صلى الله عليه و آله و سلم فقد كان حليما صبورا فصبر على أذى قومه له في سبيل دعوته و لم يتعجل بالدعاء بهلاك قومه مثلا, و من ذلك ما ذكرته عائشة رضى الله عنها من أنها قالت للنبي صلى الله عليه و آله و سلم هل أتي عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: "لقد لقيت من قومك و كان أشد ما لقيته منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت و أنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا و أنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي و إذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال: إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك و ما ردوا عليك, و قد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال: يا محمد إن قد سمع قول قومك لك, و أنا ملك الجبال, و قد بعثني ربي إليك لتأمرني فيما شئت, و إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين (أي الجبلين المحيطين بمكة), فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا".

و عائشة رضى الله عنها هي نفسها التي قالت: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم شيئا قط بيده و لا امرأة و لا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله, و ما نِيلَ منه شيئا قط فينتقم من صاحبه إلا أن يُنْتَهَكَ شئٌ من محارم الله تعالى, فينتقم لله تعالى".

كما كان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم ذا حلم و صبر واسع بل لا نهاية له في تعامله مع جهلة المسلمين و من أمثلة ذلك ما ذكره أنس رضى الله عنه عندما قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و عليه برد نجراني غليظ الحاشية فادركه أعرابي فجذبه بردائه جذبة شديدة فنظرت إلى صفحة عنق النبي صلى الله عليه و آله و سلم و قد أثرت فيها حاشية البردة من شدة الجذبه ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك, فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء".

و لعله رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم كان يقصد نفسه في ما ذكره ابن مسعود رضى الله عنه في قوله: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يحكي نبيا من الأنبياء صلوات الله و سلامه عليه ضربه قومه فأدموه و يمسح الدم عن وجهه و يقول: اللهم اغفر لقومي فانهم لا يعلمون".

و مع ذلك فقد ظل النبي صلى الله عليه و آله و سلم يتمتع بالعديد من الصفات و السمات السلوكية المتميزة بعد البعثة و ظل يسير بها بين الناس, فمنها حسن خلقه صلى الله عليه و آله و سلم قال تعالى: "وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ" القلم 4, و عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: "لقد خدمت رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم عشر سنين فما قال لي قط: أف , و لا قال لشئ فعلته لِمَ فعلته؟ و لا لشئ لم افعله ألا فعلت كذا".

و عن الصعب بن جثامة رضى الله عنه قال: أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم حمارا وحشيا فرده على, فلما رأى ما في وجهي قال: "إنا لم نرده عليك إلا أنا حُرُمْ".

و عن عبدالله بن عمرو رضى الله عنهما قال: لم يكن رسول الله فاحشا و متفحشا, و كان يقول: إن من خياركم أحسنكم خلقا"

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشرت في جريدة اليوم السابع الأسبوعية يوم الثلاثاء الفائت 17 أغسطس 2010.