هل المصريون متدينون؟

بقلم عبد المنعم منيب | 5 سبتمبر, 2009

من المشهور عن الشعب المصري أنه شعب متدين منذ عصر الفراعنة و حتى الآن أيا كان الدين الذي يعتنقه, كما يثير شهر رمضان هذه القضية من ناحية أن العديد من مظاهر التدين تزيد و تنتشر في المجتمع المصرى في هذا الوقت من كل عام أكثر من أي وقت آخر, و لكن هل الشعب المصري شعب متدين فعلا بالمفهوم الاسلامي لكلمة التدين سواء في رمضان أم في غير رمضان؟
للاجابة على هذا السؤال لابد أن نلاحظ أن مظاهر التدين التي نقصدها هي المظاهر الصادقة كاللحية و الحجاب و النقاب و الالتزام بالصلاة في المساجد و أداء العمرة أو الحج و الزكاة و الصدقات و نحو ذلك بهدف التقرب إلى الله بصدق, و لا يعنينا الذين يفعلون ذلك كمظاهر للاحتيال على الناس بغرض اخفاء طبيعتهم الحقيقية فلا يعنينا من يفعل أي من هذه الطقوس ليخفي حقيقة أنه منحرف انما الحالة التي نناقشها هي حالة المتدين بهذه العبادات صادقا في أدائها بغرض التقرب الى الله.
هل هذا هو التدين الذي حض عليه الاسلام؟ و هذا الذي يفعل ذلك هل هو متدين حقا؟
إن التدين الحقيقي هو تقوى الله تعالى بمعنى طاعته و الخوف منه و الاستعداد ليوم الحساب يوم القيامة بفعل الطاعات و ترك المعاصي, و قد ورد الأمر بالتقوى في مواضع كثيرة من القرآن و السنة, و عندما ورد الأمر بالتقوى فإنه ورد أحيانا بصيغ عامة جدا مثل قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } آل عمران102, و مثل قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } الحشر18, و قوله عزو جل {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }التغابن16, و قوله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ }لقمان33.
كما اوضح القرآن أن التقوى هي وصية الله لجميع الخلق على لسان مختلف الرسل قال تعالى { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيّاً حَمِيداً }النساء131, و لذلك نجد ان ابن تيمية يشير إلى ان أهم و أفضل وصية لأي انسان هو تقوى الله لأنها وصية الله لجميع الخلق في الاسلام و قبل الاسلام.
فالتقوى هي التدين و هي الالتزام بتعاليم الدين لأنها هي الخوف من الله و الاستعداد لملاقاته بطاعته و تجنب معصيته.
و طاعة الله الحقيقية تكون شاملة لأن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }البقرة208, أي التزموا بجميع تعاليم الاسلام, فالسلم هنا معناه الاسلام كما قال المفسرون.
و الأمر بالتقوى كما ورد مجملا في القرآن فإنه ورد أيضا مقترنا بتفاصيل بعض الطاعات مثل الجهاد في قوله تعالى {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }البقرة194, و مثل العلاقة الزوجية {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ }البقرة223, و كذلك في الطلاق و الرضاع و مناسك الحج و الصيام و الزكاة و الصدقة و تقسيم الغنائم و المعاملات المالية و اقامة العدل و التعاون على البر و عدم التعاون على الاثم كما ورد مقترنا بأحكام الصيد و الطعام و البراءة من اعداء الله و تحري الحلال في كل شئ و الشهادة في الميراث أو في المعاملات المالية و الصدق و توحيد الله و طاعة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و القيام بالاصلاح بين الناس و تجنب الغيبة و سوء الظن و التجسس, و غير ذلك كثير مما يطول ذكره, و في ذلك اشارة إلى أهمية القيام بطاعة الله و تجنب معصيته في مختلف المجالات, و من هنا نعلم أن الاسلام شامل فهو ليس مجرد جوانب محدودة من الطاعات بل هو منهج شامل للحياة كلها, و هو بذلك يشمل أشياء لها طبيعة مادية ظاهرة كالصلاة و الحج و الملابس و غيرها كما يشمل أشياء معنوية مثل العدل و الصدق و المعاملات المالية و الاستقامة السلوكية و حسن الخلق و نحو ذلك, و من هنا فالمسلم المتدين أو التقي مطالب بالقيام بكل ما يستطيعه من هذا المنهج الشامل, لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }البقرة208, و قوله تعالي: { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }البقرة85, رغم أن ذلك كله متوقف طبعا على مدى الاستطاعة.
و من هنا فمن تعمد قصر التدين على بعض العبادات دون غيرها من العبادات أو دون التدين في المعاملات و الأمور المعنوية فهو مقصر في تدينه كما أن فهمه للتدين هو فهم خاطئ.
و من الغريب أنه انتشر بين كثير من الناس الآن التعلق بجوانب شكلية على انها التدين و لا تدين غيرها بينما يغفلون بقية جوانب الاسلام رغم مخالفة ذلك لمنهج الاسلام نفسه.
و العجيب أن التدين الشكلي عبر الالتزام بمظاهر بعض العبادات أمر دخل على المسلمين منذ زمن طويل فعندما انغمست قطاعات واسعة من المجتمع الاسلامي في الترف بشكل زائد عن الحد و تعلقوا بالدنيا و ابتعدوا عن التدين بدرجة ما في العصر العباسي نشطت حركة العلماء و الوعاظ و المتصوفيين يدعون الناس للعودة للالتزام الديني و الزهد في الدنيا و العمل للآخرة, لكن مع مرور الوقت بدأ الانحراف يدب في أوصال الكثير من الوعاظ و المتصوفين فصاروا يتمسكون بالمظاهر الشكلية من الالتزام الديني فتحول التدين إلى طقوس و شعائر شكلية لاينفذ تأثيرها لداخل القلوب, ربما بدأ انتشار ذلك في عصر المماليك ولكنه على كل حال استمر ليومنا هذا.
قد يكون ذلك لسهولة هذه الشعائر و الطقوس, إذ يسهل على شخص أن يؤدي الحج أو العمرة بينما يصعب عليه أن يكون عادلا في سلوكه أو صادقا في أقواله, و ربما يسهل على شخص أن يواظب على الصلاة و لكن يصعب عليه أن يعطي كل ذي حق حقه, و قد يسهل على انسان أن يخرج صدقات لكنه يصعب عليه أن يجاهد أو يصدع بكلمة الحق في وجه ظالم من ذوي المناصب الكبيرة.
بل حتى العبادات التي نستسهلها جميعا من صلاة أو صوم أو نحوها فإننا لا نقوم بها حق القيام فالصلاة مثلا ليست قيام و قعود و قراءة فقط بل هي خشوع و تأمل و تفكر في ما نقول و نقرأ و مناجاة لله تعالى, و هذا قد يصعب على بعض الناس بينما يسهل عليهم القيام و القعود و القراءة و يعتبرون أنفسهم قد قاموا بما عليهم من واجب الصلاة, و هكذا سائر العبادات حيث يسهل علينا القيام بمظهرها دون معاناة محاولة القيام بجوهرها, و هذا خلل في فهمنا لحقيقة الدين.
و كذلك فإن هناك تفاضل في العبادات إذ من المتفق عليه بين العلماء أن العبادة المتعدية النفع كالصدقة أو اقامة العدل أو اعانة الضعيف أفضل من العبادة غير المتعدية كذكر الله أو الصلاة النافلة أو صيام النافلة, فالأولى يعود نفعها على العديد من الناس بينما الثانية يقتصر نفعها على القائم بها وحده, و هذا أيضا مما يغفله كثير من الناس بشكل شوه كثيرا من مفهوم التدين في أيامنا هذه. 

ــــــــــــــــــــــــــ

كتبت هذا الموضوع لجريدة الدستور المصرية و نشر في عددها الأسبوعي 2سبتمبر 2009م.