في الماضي عندما رأيت الفوضى في التوجيهات ممن اشتهروا بكونهم رموز او قادة -مفكرين أو علماء أو طلبة علم متقدمين أو باحثين أو دعاة- عندما رأيت فوضى ما يصدر عن كثير من هؤلاء في التوجيهات الفكرية والسياسية دعوت إلى اعتماد التخصص الدقيق للمتكلم في أمر ما، و جعل الإجازات العلمية الرسمية هي مقياس الشهادة للمتكلم بالتخصص حتى نقلل أو نحد من هذه الفوضى، ولكن الآن عندما أرى العديد من الرموز التي ينظر لها الناس وينتظرون رأيها في شؤون الأحداث الجارية المهمة والكبرى التي تهم جميع المسلمين مثل أحداث فلسطين أو سوريا أو اليمن أو العراق أو لبنان أو غيرها أجد أن موضوع الإجازات العلمية ليس شرطا، فالعديد من هؤلاء قد حاز على إجازات علمية في مجال الفقه أو العقيدة أو الدراسات الشرعية ومع ذلك يصدر توجيهات أو مواقف سياسية خاطئة تجاه أحداث السياسة الدولية والإقليمية، وفي واقع الأمر فإن هذه المواقف السياسية الخاطئة ناجمة عن أمور عدة منها:
بعضهم حفظوا الفقه ولكنهم لم يتفقهوا أو لم يحوزوا ملكة الفقه.
وبعضهم الآخر تفقه وحاز ملكة الفقه جزئيا ولكن لم يحز جانبا مهما من الملكة الفقهية والتي تبرز ثمرتها في قول ابن تيمية عندما قال: "ولو قدر أن المسلمين ظلمة فسقة، ومظهرون لأنواع من البدع التي هي أعظم من سب علي وعثمان، لكان العاقل ينظر في خير الخيرين وشر الشرين.
ألا ترى أن أهل السنة وإن كانوا يقولون في الخوارج والروافض وغيرهما من أهل البدع ما يقولون، لكن لا يعاونون الكفار على دينهم، ولا يختارون ظهور الكفر وأهله على ظهور بدعة دون ذلك"([1]).
وهم إن حفظوا كلام ابن تيمية هذا فإنهم لا يطبقونه عمليا فيما يصدر عنهم من فتاوى سياسية ومواقف سياسية.
مواجهة حقائق الواقع دون تهرب
و يجب ألا نكون مثل النعامة التي تدفن رأسها في الرمال، لابد ان نعترف بارتباط مصالح العديد من هؤلاء المتحدثين بالعديد من الحكام أو ارتباط مصالحهم بالعديد من الدول التي يحكمها حكام تابعون للمنظومة الصهيوصليبية، تلك المنظومة التي تهيمن على العالم اقتصاديا وعسكريا وسياسيا، ولها أجندتها في تحريك المسلمين في اتجاهات معينه من شأنها أن تزيد ضعف المسلمين ضعفا، وأن تجعل المسلمين متشرذمين وتقسمهم فرقا وشيعا يقاتل بعضهم بعضا، فلا تتوحد صفوفهم ليستمر ضعفهم، وحتى لا يدركوا أولويات العمل السياسي إن دوليا او إقليميا أو حتى محليا.
فبعض هؤلاء يتلقون دعما مباشرا أو غير مباشر من هذه الدول أو هؤلاء الحكام، وأقصد بالدعم غير المباشر هو ارتباطهم بمتبرعين مرتبطين بهؤلاء الحكام أو هذه الدول بشكل ما ولو خفي، أو ارتباطهم بأعمال بيزنس ما مع مؤسسات في هذه الدول، فكل هذا يضع قيودا عليهم في تحديد أولوياتهم ومواقفهم السياسية التي يروجون لها، وإن تم تغليفها بالدفاع عن العقيدة الإسلامية والدفاع عن أهل السنة وعقيدة أهل السنة ضد الفرق الإسلامية المختلفة.
العادات الخاطئة قيد على الممارسة السياسية السليمة
وحتى لو لم يرتبط الأمر بمصالح فهناك الارتباط بالعادات والتقاليد الخاطئة التي نشأ عليها بعض هؤلاء الرموز، فهي قيد يقيد الحركة والمواقف السياسية لأنه يصعب على الأشخاص التقليديين أن يتحرروا من عاداتهم وتقاليدهم التي عاشوا عليها لعقود طويلة من أجل متغيرات سياسية متجدده.
وهناك آخرون كانت لهم مواقف سياسية وفكرية منهجية تابعة لتيار ما أو تابعة لأهواء ما ارتكزت عليها عقولهم، ثم بعد أن صاروا في مثل هذا القالب الفكري نجدهم التحقوا ببعض الكليات وحازوا بعض الإجازات العلمية، فزينوا بها أسماءهم دون أن تتغير عقولهم، وبالتالي فإن ما يصدر عنهم من مواقف أو آراء سياسية معاصرة ما زال رهينا بهذا القالب الذي نشأوا عليه منذ البداية قبل أن يحوزوا هذه الإجازات.
النموذج الصحيح هو من نجح عمليا على الأرض
وانطلاقا من هذا كله فالذي يترجح الآن أنه ينبغي على المسلمين ألا ينظروا في مجال السياسة المعاصرة إلا للنموذج الناجح عمليا في دولته وهذا لا ينطبق حاليا إلا على نموذجين:
النموذج الاول- هو نموذج طالبان التي نجحت في التحرر من الاحتلال الغربي وإقامة دولة يأمن فيها المسلمون على دينهم من الفتنة، فهؤلاء من أقدر النماذج التي ينبغي النظر اليها في مسلكها السياسي وفي مواقفها السياسية وفي أدائها وممارساتها السياسية فهي إسلامية وتتسم بالخبرة والحنكة وترتيب الأولويات وعدم الانبطاح للرياح العاتيه المعادية للإسلام الا بقدر الضرورة الشرعية التي تقدر بقدرها فقط.
النموذج الثاني- هو نموذج حزب العدالة والتنمية التركي بزعامة رجب طيب أردوغان فهو أيضا حقق نجاحا في دولته التي كان نظامها معاديا للإسلام والمسلمين منذ خلع الخليفه العثماني، ولقد تمكن حزب العدالة والتنمية التركي من الوصول الى الحكم رغم كل الصعوبات وما زالوا منذ أكثر من 22 عاما يوفرون الحمايه للمسلم من الفتنه في دينه واجتازوا انتخابات واختبارات ومحن عديدة.
وكلا النموذجين يسعيان لمزيد من التمكين للإسلام وأحكام الشريعة، وحيازة مزيد من القدرة ليتمكنوا من زيادة أعمالهم المناصرة للإسلام والمسلمين، لأن حيازة القدرة هي التي ستوفر إمكانية تطبيق مزيد من الشرائع الإسلامية في الداخل وفي الخارج، لأنهم يعجزون حتى الآن عن تطبيق بعضها رغم موقفهم الحقيقي والجوهري في صف كل الشريعة الإسلامية.
نماذج لم تحقق نجاحا بأي مكان بالعالم فلا تسمعوا لها
أما النماذج الأخرى التي أدعو إلى نبذها وعدم الاستماع لصوتها فهي نماذج هؤلاء الذين ليس لهم دور في الواقع العملي سوى في تجريح النماذج الناجحة بدعوى تقييمها وبدعوى تبيين أخطائها، ونحن لا نعارض التقييم ولا توضيح الأخطاء اذا كان هذا هو للتصحيح والنصح الإسلامي الحقيقي، بينما هؤلاء لا يفعلون سوى الاتكاء على دعوة التصحيح والنصح هذه من أجل هدم هذه النماذج، وتنفير الناس منها ومنع الناس من التعلم من إنجازاتها العملية الحقيقية على الأرض، والدليل على ذلك أنهم لا يرون في هذه النماذج النافعة الناجحة -التي أقامت دولا- لا يرون فيها أي إيجابية فضلا عن أن ينبهوا الناس إلى إيجابيتها ويدعون للتعلم منها، فهم لا يرون فيها الا السلبيات، وهذه السلبيات هي سلبيات مزعومة لأنه بنص القرآن وبنص الحديث النبوي الصحيح فإن الوجوب منوط بالقدرة، فإذا انعدمت القدرة سقط الوجوب.
إنهم يشوشون الفكر الاسلامي ويفرقون المسلمين
وهذه الاشياء التي ينعونها على هذين النموذجين فإن أغلبها -إن لم يكن كلها- هي أمور سقطت عنهم بعدم الاستطاعة وهم يدركون ذلك، وهم يسعون لتحقيق هذه الاستطاعة، إنما هذه النماذج التي تهاجم طالبان الأفغان وتركيا أردوغان لم يحققوا شيئا عمليا على أرض العالم العربي كله، ولن يحققوا شيئا سوى أنهم يعينون المنظومة الصهيوصليبية على تفريق المسلمين و شرذمه صفهم، وعلى تشويش الفكر الإسلامي السياسي كي لا يهتدي إلى الأساليب والأدوات والاستراتيجيات الصحيحة للخروج من هيمنة المنظومة الصهيوصليبية والتخلص من تسلطها على العالم وعلى المسلمين وعلى العرب.
الاستفادة من تجربة مسلم نجح عمليا هي سبيل الانتصار
إن اهتداء المسلمين لتكتيكات واستراتيجيات من شأنها أن تمكنهم من الخروج من تسلط وهيمنة هذه المنظومة الصهيوصليبية عليهم هو رهن باستفادتهم من النماذج الإسلامية الناجحة، تلك النماذج التي حققت نجاحا عمليا في دولتها، وهي محصورة الآن في طالبان افغانستان وحزب العدالة والتنمية التركي بقيادة أردوغان، فعلى كل مسلم شاء التعلم سياسيا أن يتعلم منهما السياسة الدولية والسياسة الإقليمية والسياسة الداخلية والأمن والاستراتيجية، و دعكم من هؤلاء الرموز -هم والتيارات المحسوبين عليها- الذين لم يحققوا شيئا سوى الكلام على السوشيال ميديا والإنترنت والظهور في الفضائيات دون أن يحققوا أي نجاح عملي في أرض الواقع لا في دولهم ولا في أي دولة بالعالم كله.
([1])شيخ الإسلام ابن تيمية، منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية، ط جامعة بن سعود الإسلامية، أولى، 1986، ج6 ص375.