هل تسببت هزيمة 1967م في نشأة الجماعات الاسلامية ؟!

بقلم عبد المنعم منيب | 3 مايو, 2009
الجماعات الاسلامية
الجماعات الاسلامية

برزت الجماعات الاسلامية المتعددة كأحد المتغيرات السياسية و الاجتماعية المهمة في مصر في مرحلة السبعينات و صار لنشاطها السياسي و الاجتماعي تأثيرا واضحا في حركة العديد من الاحداث التي مرت بها البلاد منذئذ، و أثار ذلك كله اهتمام الباحثين و المحللين بمختلف اتجاهاتهم الفكرية و دفعهم للبحث عن سبب ظهور هذه الجماعات الاسلامية المتعددة و بروزها بهذه الدرجة الكبيرة، و قد عزا بعضهم ظهور الجماعات الاسلامية إلى هزيمة 5 يونيو عام 1967م، و اعتبروا أن تأثير هذه الهزيمة لم يكمن في الانكسار العسكري الذي حدث لمصر و سوريا و الاردن فقط بل إن هذه الهزيمة في رأي هذا الفريق من المحللين كانت بمثابة اعلان فشل الفكر القومي العربي بطرحه العلماني مما دفع الناس للجوء للبديل المتاح حينئذ و هو التيار الاسلامي بفكره الديني, و رأي آخرون أن فشل الانظمة التي تبنت الفكر القومي في مواجهة اسرائيل دفع الشعب المصري للانفضاض عن هذا النظام الحاكم الذي فشل الامر الذي مهد الطريق لدعوة التيار الاسلامي كي تنتشر.
و فيما يتعلق بهزيمة 5 يونيو 1967م أيضا لم يكن هذا هو التفسير الوحيد لظهور الجماعات الاسلامية و بروز دورها بل هناك تفسيرات عديدة ربما تعتبر مكملة لهذا التفسير, مثل القول بأن أغلبية الشعب المصري لجأت لطبيعتها المتدينة أصلا عندما حدثت الهزيمة فكان اللجوء إلى الله تعالي عند وقوع مصيبة الهزيمة كما يفعل أي انسان عندما تحدث له مصيبة على المستوى الشخصي, و قد اتخذ هذا اللجوء إلى الله بالنسبة لبعض الاشخاص صورة العمل السياسي أو الاجتماعي من خلال جماعة أو جمعية اسلامية ما.
لكن لابد من تفحص حالة الجماعات الاسلامية في الحياة السياسية المصرية عبر عدة مراحل كي نتمكن من فهم مرحلة الهزيمة و ما بعدها و طبيعة علاقة هذه الهزيمة بالجماعات الاسلامية المتعددة.
ففي المرحلة الأولى و هي مرحلة ما قبل 23 يوليو 1952م: كان وجود الجماعات الاسلامية واضحا في هذه المرحلة حيث نجد جماعات اسلامية كثيرة في هذه المرحلة كان أبرزها:
§ الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب و السنة و التي تأسست رسميا عام 1913م و كانت تصدر مجلة ذات طبيعة سياسية هي مجلة الاعتصام, و هي جمعية دينية اجتماعية بعيدة عن النشاط السياسي العملي.
§ جماعة أنصار السنة المحمدية و التي تاسست رسميا عام 1926م و هي ايضا جمعية دينية اجتماعية لا تشتغل بالسياسة و ان تكلمت في قضاياها أحيانا.
§ جمعية الشبان المسلمين و التي تأسست عام 1927م, و هي جمعية دينية و اجتماعية و لا تنخرط في العمل السياسي.
§ جماعة الاخوان المسلمين و التي تاسست عام 1928م, و هي جمعية دينية و اجتماعية و سياسية و لها نشاطها السياسي الواسع و المعروف قبل ثورة يوليو 1952م.
§ جماعة شباب سيدنا محمد صلى الله عليه وآله و سلم و التي انشقت عن جماعة الاخوان المسلمين عام 1939م.
ثم إذا جئنا للمرحلة التالية و هي التي تمتد من 23 يوليو 1952م و حتى منتصف السبعينات من القرن العشرين, سنجد أن قيادة الدولة متمثلة في كل من الرئيس جمال عبدالناصر و خليفته الرئيس السادات قد حرصت على تأميم الجماعات الاسلامية كما أممت الاقتصاد و كما اممت المؤسسة الدينية الرسمية التي هي الأزهر الشريف لتوظف ذلك كله لتحقيق أهداف النظام الحاكم السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية, و ان كان هذا واضحا بشأن كل من الاقتصاد و مؤسسة الازهر فإن ما يتعلق بالجماعات الاسلامية يحتاج لشئ من التفصيل.
فبالنسبة لجماعة الاخوان المسلمين فقد استعصت على التأميم ودار صراع مرير بين نظام ثورة يوليو و بينها بعد وقت قصير من اندلاع الثورة و كان لهذا الصراع ذروتان الاولي عام 1954م و أصدر النظام قرارا بحل الجماعة و بعدها تجمد نشاط الاخوان المسلمين ثم جاءت الذروة الثانية لهذا الصراع عام 1965م ليجهز النظام على بقايا جماعة الاخوان المسلمين, و بذا ظل قادة الجماعة و أغلب أعضائها المهمين في السجن إلى أن خرجوا منه في عهد السادات في منتصف السبعينات.
أما بقية الجمعيات الاسلامية المذكورة فقد تم تجميدها بشكل ملتوي عبر وضعها جميعها تحت الاشراف المباشر لأحد ضباط الثورة و ظلت في حالة التجميد هذه حتى بدايات عهد السادات عندما بدأ هذا الاخير في رفع التجميد تدريجيا عن هذه الجمعيات بهدف تطويق المد اليساري الواسع الذي كان يهدد نظام حكمه.
و إذا كان القمع و التأميم السياسي الذي مارسه نظام ثورة يوليو قد قضى على الجماعات الاسلامية الرسمية أو جمدها فإنه لم يستطع أن يقضي على العمل السري للجماعات الاسلامية, فقد مارس الاخوان المسلمون نشاطا سريا اجتماعيا و فكريا و عسكريا حتى عام 1965م عندما تم القبض على تنظيم سيد قطب و منذئذ و حتى منتصف السبعينات اقتصر النشاط الاخواني السري داخل مصر على الجوانب الدينية و الاجتماعية في اطار ضيق فرضته السرية التي فرضتها قوة القمع الأمني في ذلك الوقت.
و لم يكن نشاط الاخوان المسلمين هو النشاط السري الوحيد فقد تأسست عدة خلايا من تنظيم الجهاد بدءا من عام 1966م, و ان ظل نشاطها سريا فإن أيمن الظواهري يحكي في مذكراته أنه شارك في محاولة قام بها التنظيم لتحريك مظاهرة ضد عبدالناصر عام 1968م عقب أحكام قادة الطيران انطلاقا من مسجد الامام الحسين بعيد صلاة الجمعة و قد قاد هذه المحاولة يحي هاشم, لكن الأمن كان متحسبا و حاضرا و أفشل المحاولة, و القى القبض على يحي هاشم.
ثم تأتي المرحلة الثالثة و هذه المرحلة هي المرحلة الممتدة من منتصف السبعينات و حتى إغتيال الرئيس السادات في أكتوبر 1981م, ففي هذه المرحلة فرضت الجماعات الاسلامية وجودها و زاد عددها فلم تعد هي فقط الجماعات التي كانت موجودة في المراحل السابقة بل ظهر العديد من الجماعات الاسلامية الجديدة التي فرضت وجودها بجانب الجماعات القديمة و قد حاولت جميعها أن تفرض أجندتها السياسية والاجتماعية دون جدوى.
و بذلك يتبين أن الجماعات الاسلامية كانت موجودة منذ بدايات القرن العشرين الميلادي و استمرت موجودة بأشكال مختلفة منذئذ و حتى الآن.
و لكن ربما يكون السؤال الأكثر دقة هو هل ساعدت هزيمة يونيو 1967م على إزدهار التيار الحركة الاسلامية بجماعاتها المتعددة؟
و الإجابة على هذا السؤال تقتضي وضع السنوات القليلة التالية للهزيمة تحت مجهر التحليل, و طبعا كان هناك حالة من السكون الذي يسبق العاصفة و امتد هذا السكون من 10 يونيو 1967م يوم المطالبة ببقاء جمال عبدالناصر زعيما و حتى 24 فبراير عام 1968م عندما خرجت مظاهرات الطلبة و العمال تهتف "لا صدقي و لا الغول عبدالناصر هو المسئول" اثر الأحكام المخففة على قادة القوات الجوية الذين اعتبروا رسميا وقتها مسئولين عن الهزيمة.
في احتجاجات عام 1968م كان الاتجاه اليساري سائدا أما التيار الاسلامي فلم يكن موجودا الا إذا اعتبرنا الطبيعة المتدينة العادية للشعب المصري تمثل تيارا اسلاميا أما أغلبية المحتجين فكانوا مجرد أشخاص انتفضوا للمطالبة بالحرية و الاصلاح بدون منهج محدد أو فكر واضح و في حين استمر اليسار قويا فإن الاتجاه الاسلامي لم يظهر بوضوح منذئذ و حتى نوفمبر 1972م عندما تم انشاء جماعة اسلامية جديدة أصبح لها فروع بمعظم الجامعات اسمها "شباب الاسلام" لتمثل التيار الاسلامي.
و ظلت هذه الحركة بعيدة عن تأثير الاتجاهات المذهبية المختلفة حتى العام التالي , و فيها بدأ اليسار ينظم نفسه بخطى بطيئة و هادئة و لكن ثابتة كي يستحوذ على قيادة الحركة الطلابية في كل جامعات مصر, و استمرت هذه الجهود اليسارية بنفس الهدوء حتى وفاة جمال عبدالناصر, ليتسلم السادات الحكم و قد أتم اليسار الناصري و الماركسي على حد سواء استعدادهما لقيادة الحركة الطلابية في كل جامعات مصر و بدعم من منظمة الشباب الاشتراكي و التنظيم الطليعي و هما تنظيمان تابعان للاتحاد الاشتراكي بالاضافة إلى قوى أخرى عديدة من داخل قيادة الاتحاد الاشتراكي نفسه و هو التنظيم السياسي الحاكم و الوحيد المسموح له بالعمل السياسي.
و ما إن خاض الرئيس السادات صراعه على السلطة مع شركائه الناصريين و حلفائهم من الماركسيين حتى كشرت الحركة الطلابية اليسارية عن أنيابها لدرجة أنهم في احد اعتصاماتهم في يناير عام 1972م طالبوا بمثول رئيس الجمهورية أنور السادات أمامهم في جامعة القاهرة كي يجيب عن تساؤلاتهم و أرسلوا وفدا مكونا من خمسة طلبة لاحضاره للجامعة لكن سكرتير الرئيس قابلهم و اعتذر لهم بأن الرئيس في مهمة خارج القاهرة!!
و رغم أن العديد من الطلبة كانوا يشعرون بأن للاتحاد السوفيتي دور في عدم تمكن مصر من خوض حرب التحرير ضد اسرائيل لعدم تزويده مصر بالسلاح اللازم لذلك فإن الحركة الطلابية اليسارية دأبت على الدفاع عن الاتحاد السوفيتي و موقفه و الهجوم على مواقف السادات و دوره.
و قد أدى ذلك إلى استفزاز عدد من نشطاء الطلبة من المتدينين ومما زاد من حنقهم أيضا على اليسار الطلابي مجاهرة اليساريين بمواقفهم السلبية إزاء العديد من الامور الدينية و قد دفعهم هذا كله إلى السعي لتأسيس حركة اسلامية طلابية لتعبر عن آمالهم الاسلامية و أيضا لتتصدى للمد اليساري الذي كان يستفز العديد من الطلبة المتدينين.
و قد تم ذلك بانشاء جماعة اسلامية جديدة أصبح لها فروع بمعظم الجامعات اسمها "شباب الاسلام" لتمثل التيار الاسلامي, و قد نشأت مستقلة لا تنتمي لأي تيار ديني أو سياسي.
و قد حاولت الجهات الأمنية و قوى عديدة من دوائر الحكم السيطرة على هذه الجماعة و توجيهها ليس للتصدي لليساريين فكريا و سياسيا بل و أيضا ماديا عبر محاولة دفعهم للتشاجر مع اليساريين بالاسلحة البيضاء و نحوها, و قد رفضت جماعة شباب الاسلام هذه القيام بهذه الأمور و أعلنوا لدوائر الحكم و الأمن أن جزء من نشاط شباب الاسلام هو التصدي فكريا و سياسيا للشيوعيين لكن بدون أي تعاون أو تنسيق مع الجهات الحكومية كما رفضوا أي مساعدات حكومية بما في ذلك مساعدة بلغت 10 ألاف جنيه ذات مرة و في مرة اخرى عرض عليهم احد المسئولين أن تكون ميزانية الشباب في الاتحاد الاشتراكي تحت تصرفهم و كانت وقتها مائة مليون جنيه سنويا.
كما أعلنت جماعة شباب الاسلام رفضها لمهاجمة اليساريين بالأيدي فضلا عن الأسلحة لاعتبارها ان ذلك مخالف لأخلاقيات الاسلام.
و رغم ذلك فإن مجموعات من الشباب في العديد من الجامعات قد هاجموا اليساريين بأسلحة بيضاء في مناسبات عديدة و اعلنوا أثناء ذلك انهم يمثلون "جماعة شباب الاسلام", و لكن مصادر هذه الجماعة نفت صلتها بهؤلاء المهاجمين في ذلك الوقت, و ذكر بعضهم في مذكراته أنه يظن أن هؤلاء على علاقة بأجهزة الحكم استخدمهم لما عجز عن استخدام "جماعة شباب الاسلام", و قد دعا ذلك الجماعة لإعلان أسماء محددة حصرت فيهم حق التحدث باسم الجماعة.
و رغم أن هذه الجماعة لم تكن تمثل تيارا اسلاميا بعينه من التيارات الموجودة بالساحة المصرية فإنها طالبت الحكومة في احد منشوراتها باعادة نشر مؤلفات الشهيدين حسن البنا و سيد قطب على حسب تعبير المنشور.
لم تستمر هذه الجماعة كثيرا إذ سرعان ما حاربتها الأجهزة الأمنية و نجحت في القضاء عليها عام 1975م بعدما استفادت منها في اضعاف الماركسيين في الجامعة.
و هكذا انتهت الجماعة الاسلامية الوحيدة التي ربما نشأت بتأثير من هزيمة 1967م.
لكن ماجت الجامعات المصرية بعد ذلك بماسمي بالجماعة الاسلامية و التي نشأت أيضا بمعزل عن التيارات الاسلامية الموجودة بالساحة المصرية (الاخوان المسلمون و الجهاد و السلفيون) و لكن سرعان ما حدث فرز و استقطاب فكري لها فانضم أكثرأعضاء الجماعة الاسلامية الطلابية للاخوان المسلمون بعدما أعطى السادات الضوء الأخضر لهم ليتحركوا دون اعتراف رسمي, بينما تحالف بعضهم مع الجهاد و انضم بعضهم للسلفيين.
نستطيع بعد هذا السرد أن نقطع بأن الجماعات الاسلامية لم تظهر بسبب هزيمة يونيو 1967م فهي كانت موجودة قبلها و بعدها و مازالت موجودة حتي بعد معاهدات السلام بين العرب و اسرائيل, و لكن يمكن القول أن الهزيمة أعطت زخما للتيار الاسلامي و للبديل الاسلامي الذي عارض البديل القومي الناصري, و قد استغل التيار الاسلامي هذه الهزيمة ليثبت صدق نقده للتيار القومي سواء الناصري أو البعثي فضلا عن نقده للماركسيين و للأفكار الغربية بصفة عامة و قد أصدر الشيخ القرضاوي نفسه عدد غير قليل من الكتب عن هذه القضية وحدها كان أولها كتابه "درس النكبة الثانية ... لماذا انهزمنا و كيف ننتصر" و قد صدرت طبعته الأولي عام 1968م أي بعد الهزيمة بعام واحد.
لكن ليس هذا هو الأهم بالنسبة لتأثير الهزيمة في الحركات الاسلامية لكن الأهم هو أن المتغيرات السياسية و الاقتصادية سواء كانت داخلية أو دولية فإن لها تأثيرها في خلق الفرص و المخاطر على حد سواء, و لا شك أن أي كيان سياسي يتعامل مع هذه الفرص و المخاطر بالقدر الذي يحقق له انتهاز أكبر قدر من هذه الفرص و تجنب مخاطرها, و لا شك أن الهزيمة أضعفت من قدرة النظام المصري الحاكم على قمع معارضيه لفترة طويلة امتدت لما بعد اغتيال السادات و ربما حتى نهاية التسعينات من القرن العشرين, و قد استغلت الحركة الاسلامية بكافة فصائلها الفرص التي أتاحها ذلك بدرجات متفاوتة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كتبت هذا الموضوع لجريدة الدستور المصرية (العدد الأسبوعي 2 يونيو 2009م) و نشر بها.