مجزرة القيادة العامة و الثورة الشعبية في السودان.. تأملات ثورية

بقلم عبد المنعم منيب | 12 يونيو, 2019
الثورة الشعبية في السودان
الثورة الشعبية في السودان

‏التصريح التالي لأحد خبراء CIA تذكرته فور وقوع مجزرة القيادة العامة ضد الثوار في السودان، فعندما سألت قناة CNN أحد خبراء CIA عن سبب فشل انقلاب تركيا فقال (وقتها): "كان عليهم أن يرهبوا الجماهير أكثر لينجحوا".انتهى.
والمعنى هو: إيضاح  مفهوم اثخان الجماهير قتلا ليخافوا ويكفوا عن الاحتجاج على الانقلاب أو عرقلته.
فهذه قاعدة خبراء الانقلابات في العالم ومبدعيها وهم أبناء CIA الذين ابتدعوا الانقلابات العسكرية في أقطارنا الإسلامية في تاريخنا المعاصر ليحكموا السيطرة علينا.
ترهيب الشعب بالقتل المكثف في وقت قصير لمنعه من أى احتجاج أو مقاومة ضد حكومة بلده أجدني أميل دائما لربطه بما فعله نابليون في 5 أكتوبر 1795 من قصف عشرات آلاف المتظاهرين بالمدفعية لسحقهم فقتل 1400 متظاهر على الأقل فتفرقوا وتراجعوا عن التقدم إلى قصر الحكم (قصر التوليري)، وإنما أميل لربط قمع الجماهير هكذا بقسوة مفرطة بما فعله نابليون في باريس لأن نابليون أحد أبرز مؤسسي الأساليب والنظم العسكرية الحديثة وترك تراثا من ممارسة الحكم وترويض الجماهير وقمعها ومازال تراثه وخبراته هذه تدرس بكافة الأكاديميات العسكرية بالعالم.
لقد ثبت أن القمع الواسع للجماهير ونصب المجازر لهم لا ينجح في وقف مقاومتهم إن صدر من محتل أجنبي (كفاح الجزائر مثال) ولكن لو صدر من حاكم البلد نفسه فأحيانا يهزم الجماهير ويوقف نضالها وأحيانا لا ينجح لكن الأغلب أنه ينجح في قتل إرادة الثورة عندها.

وبناء على ما سبق فعادة يقال: تكنولوجيا القمع الحكومي مازالت متفوقة على تكنولوجيا الثورة ولذا لم نر ثورة ناجحة بالخمسين عاما الأخيرة إلا نادرا. 
وقيل: الانترنت والسوشيل ميديا والموبايل والفضائيات ستضعف قدرة الحكومات على قمع معارضيها و لكن واضح ان المعارضة لم تنجح بعد في توظيف هذه الوسائل لتحوز انتصارات مهمة ضد خصومها.
ولندع قضية الثورة في السودان ولنفكر في المشكلة بشكل تجريدي بعيدا عن تحديد دولة بعينها.. المشكلة المجردة هي:
القمع الحكومي من قبل الحكومات المستبدة يهزم الثورة.. هذه هي المشكلة التي نتأمل ونتفكر حولها في السطور التالية:
لماذا ينجح القمع المفرط القاسي في كبح ثورة الجماهير؟؟
من الثابت في تجارب علم النفس السلوكي أن هناك رد فعل شرطي (أي مرتبط بشرط ما) كما حدث في تجارب بافلوف المشهورة فعندما يربط الحاكم أو زعيم انقلاب عملية الثورة (أو حتى الاعتراض عليه) بشيء مؤلم جدا كالقتل والاعتقال والفوضى واستباحة الأموال والأعراض فإن الإنسان يعزف عن الثورة أو الاعتراض كما حدث لفئران بافلوف إذ عندما ربط انطلاق صوت الجرس بوجود الطعام  صارت الفئران يسيل لعابها وتجري باتجاه الطعام كلما رن الجرس، وعندما ربط صوت رنة الجرس بصعق الفئران بالكهرباء -إذا اقتربوا من الطعام المتواجد مع رنة الجرس- صارت الفئران لا يسيل لعابها وتقف جامدة في مكانها ولا تحاول الاقتراب أبدا من الطعام رغم جوعها ورغم انطلاق رنة الجرس، وذلك لارتباط اقترابها من الطعام في ذهنها بعملية الصعق الكهربي، ومن هنا فربط السلوك بالثواب أو العقاب له دور كبير في تشكيل طبيعة هذا السلوك ومن ذلك السلوك الثوري أو المعارض.

و هذا أمر طبيعي في البشر ولكن من الطبيعي أيضا أن هناك بشرا لا يصنعون سلوكهم وفقا لهذا الانعكاس الشرطي الآني الذي تغلب عليه الطبيعة الغريزية المتعجلة بعكس التفكير الموضوعي المنطقي، فالمؤمنون من أصحاب الأخدود الذين قص علينا القرآن والسنة النبوية قصتهم أخذ الملك يلقيهم في النار المتأججة واحدا فواحد كي يتركوا الإيمان بالله ويعودوا لعبادة الملك ورغم هذا رفضوا جميعا حتى ألقاهم الملك جميعا في النار وهم أحياء فماتوا حرقا.

و نجد نموذج صحابة النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم ممن آمنوا به في المرحلة المكية فقد ظلوا يتحملون العذاب والحصار 13 عاما وعددهم لا يزيد عن عشرات أغلبهم من الفقراء الضعفاء ومع هذا ثبتوا على إيمانهم ولم تغرهم المغريات ولم يهزمهم القمع.

إذن فالنوعان موجودان في البشر، نوع يجدي معه القمع ونوع لا يجدي معه القمع والقلة طبعا هي من لا تتسرع في التراجع عن موقفها بسبب القمع والأذى بل تصنع سلوكها بناء على التفكير المنطقي.

والجزء الثاني في تحليل المشكلة التي نتأملها معا هو طبيعة القيادة، ونلاحظ أن أحداث التاريخ الخاصة بالعديد من الثورات والحركات الاحتجاجية ارتبط نجاحها بطبيعة سلوك القيادة.

وهذا أمر مشهور مثل الحال بالنسبة لمشاهير مثل لينين أو ماوتسى تونج أو غيرهما، ومن البديهي أيضا أن القيادة لو أنها تؤثر رد الفعل "الغريزي/الانعكاس الشرطي" فحينها ستؤثر السلامة وتتراجع عن الثورة أو الاحتجاج أو حتى المعارضة بمجرد أن يكشر القمع عن أنيابه، ولكن لو أن القيادة اعتادت أن تبني سلوكها على أساس من التفكير المنطقي الموضوعي فإنها لن تتراجع عن ثورتها ومعارضتها ولكن صورة عدم التراجع هذه تختلف باختلاف طبيعة البناء الفكري لهذه القيادة.
وحينها سنجد القيادة إن كان بناءها الفكري يتسم بالجمود فإنها قد تكتفي بالثبات على الموقف الثوري حتى لو أفضى إلى فشل الثورة وهزيمتها، في حين لو كان البناء الفكري للقيادة يتسم بالإبداع والديناميكية فإن سلوكها ستبنيه على أساس المعطيات الموضوعية لطبيعة الواقع الحقيقي على الأرض.
وهذا الإبداع الديناميكي ليس له قاعدة.. فدائما الإبداع (وكذا الديناميكية) ليس له قاعدة فهو يتسم دائما بالتجديد الذي يصل للغرابة في أحيان كثيرة، والإبداع ليس مرتبطا بعدم الثبات فقد يكون الثبات نوع من الإبداع في بعض الحالات، ولكن الأغلب أن الذي يتسم بالثبات هو الإستراتيجية وإنما تتسم التكتيكات بالتغير الديناميكي والإبداع.
ونجد أنه في المرحلة المكية ثبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الإسلام ورفض تغيير أي من ثوابت العقيدة والدعوة ورغم هذا نجد أنه عرض نفسه على القبائل لتنصره لأكثر من عشر سنوات إلى أن عقد بيعتي العقبة الأولى والثانية مع الأنصار وهاجر للمدينة، ونجد قبلها رحلته للطائف وهجرتي الحبشة الأولى والثانية فكلها اتسمت بالفاعلية والتغير في الأساليب رغم ثبات الثوابت العقدية والدعوية.
وهنا سؤال مطروح: متى نعرف أن حالة الثبات هذه مناسبة أم غير مناسبة لمتطلبات الواقع؟؟ 
هذا سبق و أجبنا عنه ضمنا سابقا هنا وخلاصة ما قلناه هو شعورك الموضوعي (وليس العاطفي) بأنك تقترب من تحقيق هدفك الاستراتيجي هو الفيصل.
وبغض النظر عن حالة الثبات الكامل المفضلة في عالمنا الإسلامي منذ أكثر من مائتي عام فى الخطأ والصواب على حد سواء ومع تأكيدنا على وجوب الثبات على العقيدة وعلى الثوابت الإسلامية فلابد أن نشير ونؤكد على أن ما يحكم الصراعات عادة هي مبادئ عامة يجدر بأي قائد ألا يتجاهلها ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
تحديد الهدف والتركيز عليه و تجميع كل القوى تجاهه: بديل عن التيه الفكري والحركي الجاري بالعالم الإسلامي.
المناورة: بديل عن الوقوق جامدين أمام حائط صخري يسد الطريق دون حراك.
المبادأة: لتكون مهاجما بدلا من أن تظل تتلقى اللكمات على وجهك.
الإمساك بزمام المبادرة: لتكون فاعلا بدلا من أن تظل أعمالك مجرد ردود أفعال.
الاقتصاد في استهلاك الموارد: بدلا من أن تهدر مواردك الاقتصادية والبشرية بلا حساب.
و هذه المبادئ تتأكد في أي صراع لكنها تصير أكثر تأكيدا كلما كنت أضعف ومن ثم أحوج للحيلة والإبداع. 

ولكي لا يتوه طرف حبل الفكرة من يدنا بنهاية هذا التأمل نذكر أننا وصلنا لأن القمع يجدي فى القضاء على الثورة فى حالة فقر قيادة الثورة فكريا وإبداعيا وأشرنا إلى مبادىء عامة مهمة للتفكير في إدارة أي صراع.