تجربة ثورة سوريا فى ضوء الهزائم الثورية والسياسية بعالمنا الإسلامى (2)

بقلم عبد المنعم منيب | 1 مايو, 2018
ثورة سوريا
ثورة سوريا

كانت الحلقة الأولى من هذا المقال بمثابة التقديم لهذه الحلقة الثانية من إجالة الخاطر حول تجربة ثورة سوريا، وأول أمر يتبادر للذهن للنظر فيه وتقليب جوانبه بمقاييس السياسة والإستراتيجية الشاملة هو أول أعمال الثورة وهو اندلاع المظاهرات الاحتجاجية، ولاشك أن انتفاضة شعبية كهذه فى بلد قمعية لابد أن تأتى فلتة ومفاجأة إن لأجهزة القمع وإن للساسة حكاما ومعارضة، ولكن بعد اندلاع شرارة الانتفاضة تبدأ كل القوى فى البلد بإعادة حساباتها وإعداد خطط تعاملها مع الواقع الانتفاضى الجديد، فالحكام يخططون لاحتواء انتفاضة الشعب إن سلما أو حربا، والمعارضون يخططون لتأجيج الانتفاضة كى تستعصى على الاحتواء وتوجيهها كى تتحول إلى ثورة تغيير. 
وأول خاطر يقفز للذهن يدور حول قرار التظاهر ضد نظام بشار والظن أن مجرد المظاهرات ستدفعه لتقديم تنازلات للشعب وهو قرار يتماشى مع ما ذكرناه فى الحلقة السابقة من سمة التفكير الخاطئ المسيطر على عقول المسلمين فى ظل السنين الخداعة حيث نظام مجرم وسفاح مثل "نظام آل الأسد" لن يستحى من احتجاج الشعب ضده وهتافهم ضده فى الشوارع وإلا فلماذا أنشأ كل هذه الأجهزة والقوات القمعية والسجون ولماذا سام الشعب السورى سوء العذاب كل هذه السنوات؟؟
وانطلاقا من هذه الحقيقة فستكون خطط النظام هى البطش بكل من يغذى هذه الانتفاضة ويشارك فى هذه الاحتجاجات، وستكون خطط المعارضة هو تأجيج الانتفاضة وتحويلها لثورة شاملة تطيح بكل أركان النظام وركائزه وفى سبيلها لتحقيق ذلك فعليها أن تضع خططا لتجنيب الشعب الثائر أضرار الآلة القمعية الهائلة التى يمتلكها "نظام آل الأسد".
 ويبدو أن خطة المعارضة لتجنيب الشعب آلة القمع "العلوية الأسدية" تلخصت وقتها فى قرار حماية المظاهرات بالسلاح.
وأرى أن هذا القرار كان خاطئا خاصة فى تفصيلاته إذ ما دام النظام العلوى قمع وقتل واعتقل فى المظاهرات السلمية فكيف سيتعامل مع مظاهرات تحمل سلاحا؟؟
ثم هل المظاهرات هدف أم وسيلة ولو كانت وسيلة فما الذى نتوسله بالمظاهرات؟
المظاهرات وسيلة إما لإظهار الاحتجاج أو للإحراج إعلاميا واظهار فشل الجهة التى يجرى التظاهر ضدها, أو للسيطرة على الأرض كما حدث ببعض الدول سابقا حيث يسيطر المحتجون على الطرق والمواقع الحيوية ويطلقون السجناء السياسيين ويطردون الحاكم الذى ثاروا ضده كما حدث عبر التاريخ عشرات المرات.
وإظهار الاحتجاج والإحراج كل منهما يلجأ له المعارضون إن كان اللجوء إليه مجديا ولكن إن كان اللجوء إليه غير مجدى فلما اللجوء له بمواجهة العصابة العلوية الحاكمة فى سوريا؟؟ هل لتقديم الشعب قربانا لنظام "آل الأسد" ليعتقل من شاء أو يقتله؟
ولأن قرار تسليح المظاهرات السورية كان خطأ فقد حاول الثوار علاج هذا الخطأ فانتقلوا إلى الخطوة التالية وهى الاستقلال ببعض المناطق حسبما اتفق ودون تخطيط شامل (سياسى وأمنى وعسكرى واقتصادى) بل حسبما اتفق لهم، وهنا يجب أن نذكر أن هذا كان ينبغى أن يتم بمراعاة تماسك وتواصل أغلب المناطق المعارضة وبوجود حدود لها مع أى من المناطق التالية: تركيا والأردن لأنهما معارضتان للنظام، ولبنان لأن حدودها ضعيفة ولقطع خط الإمداد البشرى بين النظام وبين حزب إيران اللبنانى، ثم البحر لأنه يوصلك للعالم كله.
وفى التحرير لم يراع القادة العسكريون التسلح المضاد للطيران ولا تم تحييد الطيران أو تدميره ولا كسب قدرة على التوغل إلى مطارات النظام وتدميرها بعمليات كوماندوز أو اختراق أو نحوه، بل حتى التسلح المضاد للدروع ظل رهين المانحين ولم تخلق المعارضة بدائل حرة أو بدائل ذات شروط أقل من شروط الحلفاء الحاليين، فهل كان كل هذا أو بعضه ممكنا؟؟ .. ربما، والله أعلم، ولكن لم يكن لثوار سوريا فرصة كبيرة فى مواجهة طيران النظام إلا بتفكيكه من داخله أو تدميره أو تحييده أو امتلاك مضادات مناسبة او امتلاك رادع يطول عمق النظام لتهديده بالرد على هجمات الطيران مما يجمد حركة قواته الجوية، وهذا ليس شرطا أن يكون سلاحا متقدما بل ربما يكون موقعا جغرافيا متقدما أو قدرة بشرية على الوصول لأعمق نقطة عند النظام وذلك لردعه عن الهجمات الجوية.
ولكن المشكلة تأتى دائما عندما تفكر فى أمر عسكرى أو أمنى بأسلوب مدنى وكذا لو فكرت فى أمر مدنى بأسلوب عسكرى أو أمنى، لأن لكل مجال منطقه فى التفكير وهو مختلف عن منطق التفكير فى المجالات الأخرى، وهذا ما حدث فى سوريا حيث فكر الضباط السوريون المنشقون من جيش بشار (ومعهم المسلحون من الثوار) فى الشأن العسكرى والأمنى للثورة بأسلوب المظاهرات والاحتجاجات المدنية الشعبية، فلا ظلت المظاهرات مدنية ولا تحولت الثورة لعمل ثورى مسلح متقن وناجح (بعكس ثورة البلاشفة 1917 والخمينى 1979 والحوثيون فى اليمن مؤخرا على سبيل المثال).
وبعد كل هذه التعقيدات يأتى صبغ الثورة صبغات فكرية وهذه الصبغات أدت إلى كارثتين كانت كل منهما وحدها كافية للقضاء على الثورة السورية فما بالنا وقد اجتمعت عليها الاثنتان وهما:
الأولى- إعلان الإسلاميين فى سوريا عن تشكيلاتهم التنظيمية الجديدة الهادفة إلى إقامة دولة إسلامية (على الفور أو على التدريج او وفق أى مرحلية ما) وهذا تسبب فى ضرب الثورة من جانبين، والجانب الأول هو أنها فرقت الثوار لأن هناك كثير من الشعوب فى العالم الإسلامى كله (بل فى العالم كله) شوش الإعلام ذهنهم بشأن الإسلام وحقيقته وحقيقة الحكم بأحكام الشريعة الإسلامية، ونحن إذ نؤكد على وجوب الحكم بموجب أحكام القرآن وصحيح السنة والإجماع ومع هذا فإن القرآن نفسه هو الذى قال "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" (البقرة الآية 286) وقال "فاتقوا الله ما استطعتم" (التغابن الآية 16) وقال "فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه" (البقرة الآية 173) وغير ذلك من الآيات والأحاديث وإجماع الفقهاء، ولكن قادة الحركات الإسلامية لم يتفهموا مقتضيات الواقع السياسى والاجتماعى ولم يفقهوا أبعاد الأحكام والقواعد الفقهية التى تحملها هذه النوعية من النصوص القرآنية التى أشرنا إليها (بجانب نظائرها فى السنة وإجماع الفقهاء ومذاهبهم) فأدى ذلك إلى انقسام سياسى ومجتمعى أحدث شروخا عميقة فى المجتمع السورى الثائر.
وإذا كان هذا التحرك الإسلامى غير الواعى قد أدى إلى هذا على جانب المعسكر السورى الثورى فإنه أدى لأمر آخر بالنسبة لمعسكر بشار العلوى الحاكم ومن شايعه (إيران وروسيا والصين وغيرهم) وهو ما نعتبره الجانب الآخر من التأثير السلبى للتحرك الإسلامى المعلن وهو انه أعطى الأسرة الأسدية العلوية فرصة تسويق حكمها لسوريا على أنه بديل لحكم الإرهاب الذى لو تمكن من حكم سوريا فسوف يستخدمها كقاعدة متقدمة لضرب إسرائيل التى هى الربيبة المدللة للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى بل والعالم كله إذ إسرائيل حليفة وصديقة حميمة لروسيا والصين أيضا، ومن هنا صار بقاء الحكم الأسدى العلوى بسوريا هو "قرار للنظام الدولى" جرى تنفيذه بمنع أى تدخل عسكرى مباشر من أصدقاء الثورة كتركيا والخليج لحماية الثوار أو حتى الشعب السورى كما تم منع وصول أى سلاح ذى قيمة نوعية فارقة فى الصراع للثوار بينما سمح هذا النظام الدولى الذى يحكم العالم (الولايات المتحدة وإسرائيل وأوربا وروسيا والصين) ومازال يسمح بتدفق المقاتلين الشيعة من لبنان واليمن وإيران والعراق وأفغانستان وباكستان لدعم نظام بشار بجانب المرتزقة الروس فضلا عن الجيش الروسى والإيرانى كما سمح ومازال يسمح بتدفق كل أنواع الأسلحة على نظام بشار دون قيد أو شرط.
 وضمن هذا الخطأ الذى ارتكبته الحركات الإسلامية فى سوريا يأتى دور كل من القاعدة وداعش إذ أن ظهورهم على الأرض فى سوريا وإعلانهم عن هذا الوجود قد عزز من الشروخ والانقسامات السياسية والمجتمعية فى جسم الشعب السورى الثورى ونخبه السياسة كما أنه أعطى قوة لورقة النظام فى تسويق نفسه لدى إسرائيل والنظام الدولى بأنه لا بديل له سوى الإرهاب.
وإلى الحلقة القادمة  إن شاء الله.

اقرأ الحلقة الأولى هنا

اقرأ الحلقة الثالثة هنا