كيف نحصل على الوعى السياسى ؟ (1)

بقلم عبد المنعم منيب | 13 مارس, 2018
الوعى كالنور
الوعى كالنور

الإنسان بطبيعته يتطلع لمعرفة المستقبل أو حتى الغيب لأنه يظن أن ذلك سيضمن له تأمين مستقبله و من هنا يأتي اهتمام الناس بالتحليل السياسى و استشراف المستقبل السياسى و لكن مدى إدراكهم لماهية التحليل السياسى تختلف من شخص لآخر ، فقد يعتبر بعضهم اللغو (الهرتلة) الذي تسوقه برامج التوك شو أو الصحافة العربية أو حتى بوستات عدد من مشاهير الفيس بوك وتويتر هذا تحليلا سياسيا و توضيحا لمعالم المستقبل أو لخلفيات الأحداث و ما وراء الخبر ، ولكن هذا غير صحيح.
 و أفكر منذ فترة طويلة في كتابة كتاب يساعد في صنع الوعي السياسى (بما فيه القدرة على فهم الواقع السياسى و هذا الفهم هو جزء من التحليل السياسى) لدى أبناء الحركة الإسلامية و لكن عبر مداخل جديدة لصناعة هذا الوعى تختلف عن المداخل المستخدمة في الكتب و المناهج السائدة لدى الإسلاميين حاليا ، و قد يكون أحد هذه المداخل هو أن أقص تجربتى في تعلم التحليل السياسى ، و أنوي أن أبدأ في كتابة هذه السلسلة إن شاء الله تعالى عن هذا الموضوع ثم بعده انتقل لقدر من الكلام عن التحليل السياسى من عدة نواحي ، و أسأله تعالى الإخلاص لوجهه الكريم و التوفيق لإتمام هذا العمل على الوجه الأمثل.
حدث معي ثلاثة مواقف ربما تكون ساهمت في ضبط البوصلة لدي بشأن ماهية التحليل السياسي الحقيقى أو المنشود بالنسبة لأغلب الناس وكانت هذه المواقف بيني و بين أبي رحمه الله و هو كان متابعا و مهتما بشكل جيد بالسياسة منذ شبابه وحتى مماته رغم أنه لم يتخصص فيها بشكل أكاديمى ولم يتعلم أى لغة أجنبية ولم يتلق تعليما جامعيا، و المواقف الثلاثة بالترتيب كانت على النحو التالي:
1-كنت في مرحلة المدرسة الإعدادية ، و خطب السادات و قال "أنا مستعد أن أذهب الى آخر العالم من أجل السلام" و كنت أشاهده في التليفزيون بجانب أبي رحمه الله فوجدت أبي يشتم السادات ويقول : "يبقي ها تروح إسرائيل"
و قد حدث بعدها بقليل أن ذهب السادات لإسرائيل و عمل ما عمله من معاهدة.
2-كنت في مرحلة المدرسة الثانوية، و أصدر السادات قرارات سبتمبر الشهيرة حيث اعتقل في 5 سبتمبر 1981 (1500) شخصا أغلبهم من الإسلاميين و طبعا هرب أخوة كثيرون ممن كنت أصلي معهم في المسجد و صار الكثيرون مطاردين و أنا تضايقت و ذكرت أمي رحمها الله لأبي أني "لم أعد أكل كويس و نفسيتي تعبانة" فكلمني و قال لي: "يا بني ما تتعبش نفسك أنتم مش هاتعرفوا تعملوا حاجة ففي العالم الثالث الجيش هو من يتحكم في كل شئ و لن يتمكن أحد أن ينال من السادات إلا عبر الجيش و أي محاولة للنيل من السادات من الشعب لن تحقق شيئا و على كل حال الجيش ده من الشعب و ستجد منهم من سيتصدى للسادات بسبب قراراته هذه و سترى" و بعدها بأقل من شهر اغتال الملازم أول خالد الإسلامبولي و رفاقه السادات فقال لي أبي: ألم أقل لك.
3-كنت في الجامعة ، و كانت فرنسا تعمل بدأب لتعزيز علاقاتها بألمانيا عبر تطوير و تقوية الاتحاد الأوروبي و كان وقتها مازال التكتل يحمل اسم السوق الأوروبية المشتركة و لم يصبح اتحادا بعد، فقلت لأبي رحمه الله لماذا تحرص فرنسا على توثيق علاقاتها بألمانيا و لماذا تحرص بشدة على تطوير السوق إلى اتحاد فقال لي: " ألمانيا ضربت فرنسا و احتلتها مرتين في الحربين العالمية الأولى و الثانية فهم يريدون التوحد مع ألمانيا و دمجها في اتحاد أوروبي ليمنعوا أي حرب معها ثانية".
أول موقفين تعلمت منهما أن التحليل الصحيح يقع كما توقعه صاحبه مادامت المتغيرات ثابتة و لم تتغير، و الموقف الثالث علمني أهمية التاريخ في فهم الحاضر و المستقبل.
وكلا الأمرين يحتاجان ذاكرة قوية وحاضرة، فالذاكرة تجعلك تتذكر أن فلان قال كذا ولم يتحقق و فلان قال كذا وكذبته الأحداث وهكذا، أما لو ذاكرتك ضعيفة فلن تتذكر كل الأكاذيب و التفاهات التى تملأ المجال العام بعالمنا العربى والتى تساق على أنها علم وتحليل سياسى واستشراف للمستقبل ثم تكذبها الأحداث وتفضح حقيقتها التافهة، كما أن استحضار أحداث التاريخ فى عقلك وربطها بالحاضر واستشراف المستقبل من هذا الربط يحتاج ذاكرة قوية حاضرة تتذكر أحداث التاريخ وتتابع الحاضر بانتباه جيد.
أما من افتقد الذاكرة القوية والملاحظة الدقيقة والتركيز بشأن الحاضر فعليه أن يختار لنفسه أمرا آخر يتقرب به إلى الله غير مجال السياسة والعمل السياسى والكلام فى السياسة وما يرتبط بكل هذا من صراع أو جهاد أو غيره، فكل ميسر لما خلق له.
وفى مرة حدث معى أمر عجيب دون قصد منى إذ كنت أحضر الصحف اليومية كلها عام 1990 وأضعها بالترتيب على منضدة وظللت أضعها بالترتيب لعدة شهور ثم جلست ذات مرة أقرأها كلها بالترتيب (قراءة سريعة) وحدثت مقارنة داخل عقلى بين كل هذه التصريحات والوعود والقرارات والتحليلات وبين الواقع الحقيقى بعد مرور شهور قليلة على صدور هذه الصحف فوجدتها كلها كانت أكاذيب وأضاليل وتفاهات.
 ويمكن لأى قارىء الآن أن يكرر التجربة مع نفسه بسهولة عبر شبكة الانترنت بأن يحدد شخصا ما من الرموز المشهورة (حكومة أو معارضة إسلامى أو غير إسلامى مفكر أو سياسى أو داعية أو شيخ أو حاكم أو وزير أو من الشباب الذين صاروا كتابا مشهورين ومتبعين بعد هوجة المدونات والربيع العربى ومواقع التواصل الاجتماعى) أو يختار جهة ما (دولة كذا أو تنظيم كذا أو جماعة كذا أو حزب كذا) وبعد ما تحدد هدفك شخص أو جهة ابحث عن كل ما أطلقه الشخص أو الجهة من تصريحات أو تحليلات أو وعود أو شعارات أو زعم أنه سيحدث قريبا أو على المدى المتوسط وبعد أن تجمع كل المواد المنسوبة له منذ عدة سنوات رتبها بترتيب صدورها زمنيا وقارنها بالواقع الآن انظر ماذا حقق هو من وعوده وشعاراته أو ماذا تحقق من تحليلاته التى قال أنها صحيحة ولا صحيح غيرها، فإن وجدت أن أغلب ما قاله المحلل صدقه الواقع التالى لنشر تحليلاته فاعلم أنه محلل سياسى حقيقى أما إن وجدت أغلب توقعاته لا تتحقق فاعلم أنه مدعى لا علم ولا مهارة له بالسياسة، وإن كان من حددته هو دولة أو حزب أو جماعة أو قائد فانظر هل حقق أغلب وعوده التى أطلقها من سنوات فإن حققها فاعلم أنه حرى بالتصديق فى مقبل الأيام وإن وجدته لم يحقق أغلبها فاعلم أنه منافق وقائد مضل.
وهذا كله يؤكد لنا الدرس المهم ألا وهو " الذاكرة القوية والملاحظة الدقيقة والتركيز فى متابعة الأحداث المهمة والربط بين الحاضر والتاريخ".

اقرأ الحلقات الأخرى إن شئت:

كيف نحصل على الوعى السياسى ؟ (2)

كيف نحصل على الوعى السياسى ؟ (3)

كيف نحصل على الوعى السياسى ؟ (4)