شعرت منذ فترة طويلة أننى جمعت ووثقت فى ذهنى معلومات كثيرة عن الحركات الاسلامية بعامة وفى مصر بخاصة منذ 1978م وحتى منتصف 2013م، ثم قليل بعدها، وشغلنى تجميع المعلومات وكتابة طرف بسيط منها ونشره عن كتابة تحليلى لمحصلة هذا كله، وشعرت أننى ينبغى أن أكتب وأنشر كتابا يتضمن تحليلا (وليس وصفا وقصصا لمعلومات) لكل هذا الذى حزته بفضل الله تعالى من معلومات وصفية عن الحركات الاسلامية، وحال دون ذلك مشكلتى المزمنة وهى ضيق وقتى، وتحدثت فى الفكرة مع شيخ جليل (هو علامة متخصص فى العلوم الشرعية بعامة والسياسة الشرعية أيضا، وله كتابات سياسية عديدة) فقال لى "أنت كتاباتك دى ستستفيد منها الأجهزة الدولية المحاربة للعمل الاسلامى ولن يهتم بها الأخوة وضحك وقال بلاش تنشر الحاجات دى" فضحكت لأنى موقن أن العلم لا يضيع ما لم يتحول إلى سر، وقلت للشيخ: "هذه الأجهزة عندها هذه المعلومات وأضعافها ويحللونها ولكن نحن تخرج عندنا أجيال لا تتعلم ممن سبقها وتبدأ كما بدأ من قبلها وتخطئ نفس الأخطاء بل أحيانا تخطئ بأكثر ممن سبقها لسبب أو آخر".
وفى الواقع فأنا موقن -علميا وموضوعيا- أن الصراع السياسى والاستراتيجى يشبه لعبة الشطرنج فى جوانب عديدة ومنها ما يتعلق هنا بموضوع النشر وعدم النشر وهو أن جميع التحركات والخطوات من كل الأطراف أو القوى مكشوفة للخصوم وللأصدقاء أيضا لأن الرقعة مكشوفة أمام كل من ينظر، فلا يخفى منها جانب إلا إن أغفل الناظر أن يتابعه ببصره أو إن أهمل الناظر امر المتابعة أو تابع جانب من الرقعة دون جانب آخر، الإشكالية ليست فى المعلومات ولكن فى التحليل (أو الغفلة طبعا)، فقد تحرك قطعة أو تخطو خطوة ويراها الخصم أو المراقب ويهمل تحليلها أو يحللها ولكن لا يفهم مراميها أو أهدافها أو قد يدرك هدفها القريب ولا يصل فكره لإدراك هدفها البعيد، وقد تقوم بعدة تحركات فى جانب من الرقعة لتشغله بهذه التحركات وتعمى عليه تحركاتك الحقيقية الأخرى ضده فى الجانب الآخر وتكون هى تحركاتك القاتلة له والمنهية للمباراة كلها.
إذن فإن الفوز فى الصراع السياسى والاستراتيجى (كما الفوز فى مباراة شطرنج) يعتمد على التالى:
-الإبداع فى التحركات بحيث تكون قاضية ولا يمكن منعها من الوصول لهدفها النهائى حتى لو كانت نواياها ظاهرة.
-الإبداع فى اخفاء مرامى هذه التحركات رغم أنها تحركات ظاهرة، فيصعب أن تكون التحركات خفية ولكن يمكن أن نجعل مراميها خفية، أو نشوش على من يتابعها ويحللها فلا يدرك مراميها النهائية القاضية على الخصم.
-ويرتبط بهذا اخفاء أو تشويش مرامى التحركات فى بدايتها ثم تكون مضطرا عندما تشرف على الخطوات الأخيرة من هذه التحركات أن يكتشف الخصم مراميها وهدفها ولكن هذه الخطوات تكون فى هذه المرحلة محصنة من العرقلة بسبب أنها ذات طبيعة يستحيل على الخصم عرقلتها بعد وصولها لهذه النقطة المفصلية.
-الإبداع برسم عدة مسارات مختلفة كل منها قادر وحده على الفوز بالمباراة ونسير فى المسارات كلها فى آن واحد ويكون الخصم بنفس الوقت غير قادر على سد كل المسارات وإنما المتاح له (بحسب موارده وتموضعه) سد مسار أو مسارين دون بقية المسارات وهكذا تشتته فما سده تشغله به وتنطلق أنت بالمسار المفتوح لتكسب المباراة نهائيا.
هل معنى هذا أنه لاتوجد أسرار فى الصراع السياسى والاستراتيجى بهذا العالم؟؟
فى الواقع فإن الأسرار قليلة فى هذه الصراعات لأن الجميع يتابعون ويحللون ولكنها موجودة رغم قلتها ودقتها، وغالبا ما تنحصر فى النوايا السياسية والاستراتيجية، لأن النوايا مضمرة فى العقول ولا تخرج للعلن إلا إذا قرر صاحبها اعلانها، كما يمكن أن تشوش على التحركات (كما أشرنا آنفا) بحيث لا تدل على النوايا، ومن هنا فأصعب شىء على أعتى أجهزة المعلومات فى العالم هو تحليل نوايا كبار الساسة إذا قرروا إضمار نواياهم وتعمية خطواتهم بحيث لاتدل على نوايهم لأن كل أجهزة التحليل فى العالم (العلمية والاستخباراتية) ترتكز فى تحليلاتها على تحليل الأفعال والأقوال للوصول لحقيقة النوايا ووجهتها، ولذلك أدخلوا وسائل التحليل النفسى/السياسى والاجتماعى لتوقع النوايا لأن مما يصعب مسألة النوايا هو قضية رد الفعل إذ قد لا تنوى التوجه لوجهة ما ولكنك تلجأ لها كرد فعل أو تلجأ لها إذا حدث لك تحول فكرى أو سياسى أو استراتيجى ما.
والحصيلة أننى أرى أهمية النشر فى مجال تحليل تاريخنا كإسلاميين وفى مجال الإشكاليات التى تكتنف العمل الإسلامى لأن ما هو معروف عند الخصوم عنا أكثر مما نعرفه عن أنفسنا، ولأن هذا سيفيد الأجيال الشابة لتطوير عقولها ومستواها المعرفى، ولأن نشر هذا لا يضر لأنه لا يكشف نوايا أحد لأننى لا أعلم نوايا أحد، كما أننى شخصيا ليس لى نوايا ما لأنى لست سياسيا أو حركيا وإنما انا مجرد ناشر للمعرفة.
ولكى يكون هذا المقال شاملا بشأن تحديد أسرار النوايا فأكمل قائلا:
هناك بديهات سياسية واستراتيجية بشأن النوايا من مثل أن القائد "س" مثلا هو قائد لدولة وأراد أن يناطح الدول العظمى المسيطرة على العالم ولا يتقيد بقيود النظام الدولى السائد فإنه فى هذه الحالة فمن البديهى أن لا يصطدم بهذه القوى الدولية العظمى وأن يتحاشى غضبها قدر الإمكان إلى أن يحوز رادعا استراتيجيا ضدها كى لا يكون مصيره كمصير "عراق صدام" أو "أفغانستان طالبان" أو "صومال الشباب"، فهذا أمر بديهى بشأن فهم نية أى قائد استراتيجى حقيقى (يكون فاهم مش حافظ)، فلا سر هنا.. وإنما السر سيكون شىء آخر فما هو؟؟
السر سيكون كيف سيحوز الرادع الاستراتيجي؟؟ هل سيفعل مثلما فعلت روسيا بنهاية أربعينات القرن العشرين وما بعدها؟؟ أم كما فعلت الصين بخمسينات القرن العشرين وما بعدها؟؟ أم كما فعلت فرنسا وبريطانيا؟؟ أم كما فعلت إسرائيل وجنوب أفريقيا والهند وباكستان؟؟ أم مثل إيران؟؟ أم سيكون لديه أخصائيون استراتيجيون مبدعون سيبدعون له مسارا مختلفا لم يسر فيه أحد من قبل و أدوات مختلفة تفاجئ الجميع بمجال الردع الاستراتيجى؟؟
هنا فى إجابة هذه الأسئلة أحد مواضع السر.
كما أن هناك موضع آخر للسر ومكانه فى بداية القصة وهو: هل فعلا يريد هذا القائد مناطحة النظام الدولى أم أنه سيتكيف معه بجانب قليل أو كثير من المشاكسات مع هذا النظام الدولى المستقر؟؟ من المعتاد استراتيجيا أنه سيعمل دائما على إيهام النظام الدولى بالتكيف إلى أن يفاجئ الجميع بأنه صار لا يأبه بالنظام الدولى ولاتقدر القوى العظمى على ضربه.
كل هذا طبعا هو بشأن التفكير والعمل الإستراتيجى الحقيقى العلمى الموضوعى من قبل قادة استراتيجيين حقيقيين يحوزون ملكة التفكير السياسى والاستراتيجى فعلا، لكن أغلب مايفعله معظم قادة الحركات الاسلامية لا يمت للاستراتيجية بصلة إلا من حيث ما يحفظونه من كتب حفظا بدون تحصيل ملكة التفكير بهذا المجال، فأكثر ما يفعلونه هو تخبط وهزل وليس استراتيجية ولا سياسة.
ورغم هذا فيمكن التنبوء بنوايا قادة الإسلاميين فمثلا لو حازوا بالصدفة رادعا استراتيجيا فإنهم لن يستخدموه لابتزاز "قوى عظمى" ماليا دون استخدامه كما قد تفعل عصابات لصوص، ولا سيستخدمونه لمنعها من استضعاف المسلمين وظلمهم بالتلويح به دون استعماله، ولكنهم سوف يسارعون بتدمير جزء من العالم بدعوى الانتقام من هذه القوة العظمى أو تلك، فحتى نواياهم الاستراتيجية الساذجة باتت مكشوفة ومفضوحة وبالتالى يسد أعداؤهم عليهم مسارات تحقيق هذه النوايا.