هناك تعميمات أشبه بقوانين التاريخ الحتمية يغفل عنها كتاب وباحثون بل ومحللون سياسيون كثر في عالمنا العربي والإسلامي بسبب عدم اعتنائهم بدراسة التاريخ جيًدا والتأمل في تفاصيل أحداثه ومجمل اتجاهاتها، وخاصةً في التاريخ الإسلامي.
ومن هذه التعميمات المغفول عنها أن أي تيار أو توجه نشأ بالحركة الفكرية أو السياسية أو الاجتماعية في التاريخ الإسلامي لم يزل من الواقع منذ نشأته وحتى الآن زوالًا عضويًا تامًا، وحتى عند أفول أي توجه أو تيار فهذا الأفول هو في حقيقته أفول إزدهاره وهيمنته وليس معناه زواله عضويًا من الواقع بالكلية، ولنتذكر معًا أغلب الحركات الفكرية والاجتماعية والسياسية في تاريخنا الإسلامي..
-الخوارج بعصر الفتنة الكبرى زمن أمير المؤمنين علي بن أبى طالب، ويستمر وجودهم حتى الآن.
-تيار الملكية في النظام السياسي منذ نشأته مع الدولة الأموية وما بعدها من ممالك إسلامية وهو مستمر حتى الآن كما يجد أسسه الفكرية في الجامية حاليًا.
-تيار التشيع لآل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بفرقه المختلفة، بدأ منذ عهد أمير المؤمنين علي ومستمر حتى الآن.
-ومن فرق التشيع فرقة الشيعة الإسماعيلية مؤسسي الدولة الفاطمية ومنهم القرامطة وغيرهم ورغم محاربة صلاح الدين الأيوبي (ومن قبله وبعده من سلاطين المسلمين) ضدهم ومن ثم هزيمتهم إلا أنهم مازالوا موجودين حتى الآن ولهم كياناتهم ونشاطهم وتأثيرهم وإقتصادهم وإن انقسموا لعدة فرق.
-ونجد المعتزلة والأشاعرة والمرجئة والصوفية ونحوهم بكل تفريعاتهم وكلهم يوجد لهم امتدادات فكرية ونظامية مستمرة حتى الآن.
- الزنادقة ونحوهم من حركات مارقة كالخرمية والبابكية ودعاة وحدة الوجود وحاملي أفكار ثورة الزنج ونحو هذا فلا شك أن لهم امتدادات لأفكارهم حتى الآن وإن تلونت بألوانٍ حركيةٍ واجتماعية أخرى، وساقت شعارات تبدو جديدة في صياغتها ولكنها تعبر عن جوهر نفس هذه الحركات التي يظن الكثيرون دروسها وزوال وجودها.
وهكذا.. حتى فى عصرنا الحديث بل فى آخر مائة سنة نشأت جماعاتٌ وحركاتٌ وتيارات فكرية وسياسية واجتماعية في عالمنا العربي والإسلامي ولكن كلما انتهى عصر إزدهار أي منها فسرعان ما تتوارى قليلًا وتجلس فى الصفوف الأخيرة بواقعنا دون أن يزول وجودها العضوي من الواقع، فهي تفسح الصفوف الأولى للقوى الصاعدة، سواء كان صعودها حقيقيًا بتحقيق نجاحاتٍ حقيقية أو كان صعودها لا سبب له إلا تعلق الجماهير بأماني وآمال يحلمون بتحقيقها على يد هذا الصاعد الجديد.
فالكل يأخذ دوره لينجز آمال وأحلام الجماهير العربية والإسلامية بشكلٍ أو آخر سواء كان صادقًا أو دجالًا سواء كان ذكيًا أو أخرقًا ثم تكشف الأيام حقيقته فإما ينجز فيطول بقاؤه بالصف الأول، وإما تنكشف حقيقة عجزه عن الإنجاز وعجزه عن تقديم مخرجات تتناسب مع أحلام الجماهير وآمالها وحينئذ تدهسه عجلة التاريخ وتدفعه حركة الأحداث إلى الصفوف الخلفية، ربما ينزوي ويراقب في صمتٍ وربما يظل متربصًا فرصةً قد تلوح في المستقبل ولكن منطق التاريخ (الذي هو سنة الخالق جل وعلا) تأبى أن يعاندها فاشل، فمن رسب في الإمتحان فأنى له أن يفلح فى تقديم الاستجابة الصحيحة للتحدي في أي امتحان تالي مادام مستمرًا على حاله الذي تسبب في إخفاقه في الإمتحان من قبل، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال آية 53]، وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد من الآية: 11]، كما قال عزو جل: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران 165] ، وقال الله تعالى أيضًا: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران من الآية: 140].