هل كان أنور السادات ديمقراطيا؟؟

بقلم عبد المنعم منيب | 18 أغسطس, 2008
السادات
السادات

عندما شعر جمال عبد الناصر أن الاتحاد السوفيتي يماطل في اعطائه أسلحة هجومية من النوع الذي يمكنه من تحرير الأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل في 5 يونيو1967م راوده الأمل في أن يتمكن من الحصول على أسلحة غربية متقدمة بطريقة ما، و حرض عددا من حكام الدول العربية و على رأسهم القذافي للحصول على أسلحة غربية متقدمة و من ثم حصل القذافي على الميراج من فرنسا كما حصلت السعودية و العراق على مقاتلات غربية أصبح لها دور فيما بعد في حرب أكتوبر 1973م، لكن الأمر لم يقتصر لدى جمال عبد الناصرعلى مرارات و عقبات السلاح السوفيتي أو الغربي بل إن جمال عبد الناصر عانى من مرارات الحصار الإقتصادي الغربي على مصر و ربما يظن البعض أن هذه المرارات قاصرة على الضعف الإقتصادي الذي عانى منه الإتحاد السوفيتي و كتلته الشرقية و الذي انعكس تدهورا و ضعفا في قدرته على تقديم المساعدات و الإستثمارات لمصر، لكن المرارات الأبرز كانت من شعور جمال عبد الناصر من أنه صار مقيدا و ممنوعا من أن يلعب لعبته السياسية المفضلة.

تلك اللعبة التي اعتاد أن يلعبها منذ أن كان رئيسا لمجلس قيادة تنظيم الضباط الأحرار حتى من قبل أن ينجح في القيام بثورة يوليو 1952م بل ربما كانت هذه اللعبة المفضلة هي السبب الرئيسي في نجاح هذه الثورة، تلك اللعبة تتمثل في فتحه قنوات اتصال و اقامة علاقات مع كل القوى الدولية و استغلاله لتعدد هذه القوى و خلافاتها من أجل تحقيق أهدافه السياسية و الإقتصادية، و كان يضم ضمن تنظيم الضباط الأحرار ضباطا من مختلف التوجهات السياسية و الأيدولوجية لتحقيق هذا الغرض فمن الضباط الإخوان إلى الضباط الشيوعيين إلى الضباط ذوي التوجه الغربي ممن يميلون للتعاون مع انجلترا أو أمريكا أو حتى الملك فاروق، لكن الحصار الغربي على مصر منذ ستينات القرن العشرين منع جمال عبد الناصر من ممارسة اللعبة الدولية التي يفضلها للفوز على حساب الخلافات بين القوى الدولية المتعددة، فماذا فعل جمال عبد الناصر؟؟

يحكي البعض أن جمال عبد الناصر في إحدى لحظات الغضب من السوفيت قال: "أنا سأجيب لهم اللي يعرف يتعامل مع الغرب"، و هكذا صعد أنور السادات إلى واجهة المشهد السياسي في مصر بعدما وضعه جمال عبد الناصر في صدارة المرشحين لخلافته.

لكن هل كان لأنور لسادات نفس رأي جمال عبدالناصر أم كان له رأي آخر؟؟

الإجابة تأتي واضحة في المشهد التالي: بعد توليه لرئاسة مصر بفترة وجيزة جدا سأل السادات ابراهيم سعد الدين قائلا: "كم قوة دولية كبرى في العالم يا ابراهيم؟؟

فرد ابراهيم: ما سيادتك عارف يا ريس.

قال له السادات: لكن أنا أريد أن أسمع الإجابة منك.

قال ابراهيم: اثنتان يا ريس الإتحاد السوفيتي و الولايات المتحدة.

فرد السادات مستنكرا: خطأ يا ابراهيم، هناك قوة دولية واحدة هي الولايات المتحدة فقط".

و قد يستغرب البعض من هذا التقدير السياسي لسبب أو لأخر لكن من يقرأ مذكرات الدكتور مراد راغب الذي ظل سفيرا لمصر في الاتحاد السوفيتي لفترة طويلة حتى صار من أكبر الخبراء في شئونه يدرك نفاذ بصيرة أنور السادات السياسية في هذه المسألة لا سيما و أن عددا من قادة السوفيت كانوا منذ الستينات قلقين على مستقبل الإتحاد السوفيتي بسبب تأخره التكنولوجي و الإقتصادي.

وهكذا بدأ أنور السادات حقبة رئاسته لمصر انطلاقا من هذه القناعة.

عندما تولى أنور السادات الحكم كان أمامه عقبات عديدة لكنه تغلب عليها واحدة تلو الأخرى وكانت مواجهة كل من هذه العقبات تقوده لطريق واحد سنراه بعد قليل.

في البداية كان علي أنور السادات أن يحل مشكلة الأراضي المصرية و العربية المحتلة إن سلما أو حربا، وفتح أنور السادات قناة اتصال سرية مع الولايات المتحدة محاولا حل المشكلة سلما لكن محاولاته باءت بالفشل، فلم يجد بدا من العزم على خوض الحرب ثم خاضها فعلا في أكتوبر 1973م.

كان على أنور السادات مواجهة مشكلة الصراع على السلطة بعيد توليه الحكم مباشرة، و فعلا حسمه لصالحه بمساعدة العديدين و منهم الفريق صادق و الذي عينه وزيرا للدفاع بعد حسم الصراع، لكنه لم ينس أن هؤلاء الذين واجهوه هم من اليسار الناصري و قريب منهم اليسار الماركسي، ولم يكد أنور السادات يقضي على خصومه داخل هيكل السلطة نفسه حتى بدأت الحركة اليسارية (بشقيها الناصري و الماركسي على حد سواء) تتحرك بفاعلية في الجامعات و التجمعات، و كان على أنور السادات الذي يعد البلاد للحرب أن يواجه هذا المد اليساري لكن باسلوب سياسي أكثر منه بوليسي فشجع الحركة الإسلامية التي كان نشاطها يتصاعد هي الأخرى كي يوازن المد اليساري المتصاعد، البعض يبالغ في تصوير هذا الإستغلال و يزعم أن أنور السادات هو الذي أنشأ هذه الجماعات الإسلامية أصلا لكن المصادر الموثوقة تؤكد أنه حاول أن يستغل الحركتين الصاعدتين باشغالهما ببعضهما البعض لا أكثر و لا أقل.

كان أنور السادات رغم مشاركته في عضوية محكمة الثورة التي قمعت الإخوان المسلمين و أعدمت بعضهم قد ذاق مرارة السجن السياسي، كما كان أنور السادات لصيقا بالسياسة أكثر منه بالعسكرية فهو لم يمكث في الجيش إلا حتى رتبة رائد و بعدها تمرس في مناصب سياسية و صحفية لنحو عشرين عاما حتى صار رئيسا لمصر، و حتى الفترة القصيرة نسبيا التي قضاها في الجيش كان يمارس خلالها السياسة من خلال عضويته في عدد من التنظيمات السياسية و منها تنظيم الإخوان المسلمين كما تخللتها فترة هروب من الجيش بل و رفد منه.

كان عزم أنور السادات على التوجه للتحالف مع الكتلة الغربية من أجل تحقيق أهداف مصر السياسية و الإقتصادية يقتضي أن يرتب الأوضاع الداخلية سياسيا و اقتصاديا بالشكل الذي يتفهمه المجتمع الغربي و مؤسساته و حكوماته الليبرالية، كما كان الشعب المصري قد مل الحكم البوليسي و القمع و التعذيب وبدأ يتململ ومن ثم عبر الطلبة و العمال عن نبض الشعب في مظاهرات فيراير 1966م ثم في تحركات طلابية أخرى في يناير 1972م انتهت بمصادمات بين الشرطة و الطلبة و اعتقل على اثرها عدد كبير من الطلبة و حينئذ تضامنت نقابات المهندسين و الأطباء و الصحفيين مع الطلبة المعتقلين، كما طالب العديد من المفكرين اليساريين والليبرالين بالحريات و التعددية السياسية في العديد من المواقف و المناسبات، و كان أنور السادات بحكم تكوينه و خبراته السياسية قادرا على قيادة الدولة للتحول نحو مزيد من الإنفتاح السياسي و حرية التعبير و التعددية السياسية الشكلية أو الديكورية، لا سيما و أن أنور السادات كان مطلعا على الأزمات التي كانت تعصف بالبلاد منذ نهايات حكم جمال عبد الناصر من أول الأزمة الاقتصادية التي بدأت بوادرها منذ عام 1966م وحتى أزمة المشاركة السياسية التي تبلورت بوضوح، و مرورا طبعا بأزمة الهزيمة العسكرية في يونيو 1967م فضلا عن حرب اليمن.

و هكذا بدأ أنور السادات حكمه باخراج الإخوان المسلمين من السجن و اتاحة الفرصة لهم للتحرك بشكل عملي دون أي اعتراف رسمي أو وجود قانوني، و كان ذلك كله في اطار شئ من الترتيبات السياسية مع قيادة الإخوان المسلمين.

لكن كان على أنور السادات أن يضع الأطر القانونية لحكمه و يؤسس لشرعيته الجديدة و من هنا كان اصداره للدستور الدائم عام 1971م و طرح شعاري سيادة القانون و دولة المؤسسات، لكن ظلت الصلاحيات الواسعة لرئيس الجمهورية و من خلفه السلطة التنفيذية من سمات دستور 1971م أسوة بحال الحقبة الناصرية.

و في ابريل 1974م أصدر أنور السادات ورقة أكتوبر و التي و إن أقرت التنظيم الواحد فإنها أشارت إلى ضرورة أن تعبر كل قوى تحالف الشعب العامل عن مصالحها المشروعة و آرائها بحيث تتضح الإتجاهات التي تحظى بتأييد الأغلبية و التي يجب أن تتبناها الدولة (و كان وقتها الإتحاد الإشتراكي العربي هو التنظيم السياسي الوحيد المسموح له بالوجود و العمل و كان بمثابة الحزب الواحد الحاكم و منه تاتي الحكومة).

و بعدها بأربعة شهور أصدر أنور السادات ورقة تطوير الإتحاد الإشتراكي و دعا فيها إلى اعادة النظر في شكل التنظيم السياسي و حدد هدفه من التطوير في أن يكون الإتحاد الإشتراكي بوتقة حوار تنصهر فيها الأفكار المتعارضة و تتبلور فيها الإتجاهات.

و استطرد أنور السادات قائلا في هذه الوثيقة: ان طبيعة الأشياء أن يختلف الناس حول القضايا السياسية و الاجتماعية، و ان الاتحاد الإشتراكي الذي يمثل قوى الشعب العامل أولى به أن يأخذ بأسلوب تمثيل الاتجاهات المختلفة في قيادته حتى لا يحس اتجاه له تأييد بين القواعد أنه مبعد تماما عن المشاركة في قيادة التنظيم فيفقد شعوره بالإنتماء إليه.

و إذا كانت ورقة أكتوبر قد مهدت للتعددية السياسية التي كان أنور السادات عازما عليها فإن ورفة تطوير الإتحاد الإشتراكي كانت بمثابة الشرارة التي أطلقت العنان لعملية التحول نحو التعددية السياسية الشكلية التي شهدتها مصر لأول مرة منذ ثورة يوليو 1952م.

في البداية استغرق البحث و التقصي في لجان خاصة بالإتحاد الإشتراكي نحو السنة لتخرج في النهاية اللجنة بعدة توصيات كان أغلبها يميل لعدم التعددية الحزبية فقد كانت أغلب الأراء تميل إلى عمل منابر للرأي داخل الإتحاد الإشتراكي.

 و بعدها بنحو العام أي في مارس عام 1976م قرر أنور السادات اقامة ثلاثة منابر في الإتحاد الإشتراكي العربي لتمثل اليمين و الوسط و اليسار، فاليمين باسم "تنظيم الأحرار الإشتراكيين" و الوسط باسم "تنظيم مصر العربي الإشتراكي" و اليسار باسم "التجمع الوطني التقدمي الوحدوي" و دخلت هذه المنابر انتخابات مجلس الشعب في صيف نفس العام، و في أول اجتماع لمجلس الشعب بعد هذه الإنتخابات "11 نوفمبر 1976م" أعلن أنور السادات تحويل التنظيمات السياسية الثلاثة إلى أحزاب، ثم صدر قانون الأحزاب السياسية في يونيو 1977م.

و كانت الفكرة السائدة وقتها أن أنور السادات سار بهذا التدرج الطويل ليصل بعد سبع سنوات من حكمه لنظام حزبي تعددي يحل محل الإتحاد الإشتراكي العربي بسبب المعارضة الشديدة لذلك الإجراء من قبل قادة الإتحاد الإشتراكي و النقابات العمالية حينذاك.

وعلى كل حال فقد كان تعددا حزبيا شكليا فلم يحدث أبدا أن وصل حزب معارض لأغلبية الثلثين في مجلس الشعب، و ظلت هذه الأغلبية دائما من نصيب حزب الرئيس حتى أن السادات لما أنشأ حزبا جديدا و تخلى عن عضويته لحزب مصر العربي الإشتراكي في 1978م هرول جميع أعضاء الحزب الحاكم من حزبهم "حزب مصر العربي الإشتراكي" و تركوه وانضموا للحزب الجديد الذي أنشأه الرئيس تحت "اسم الحزب الوطني الديمقراطي" وصارت للحزب الذي نشأ للتو أغلبية الثلثين بمجلس الشعب بقدرة قادر تلك الأغلبية التي كانت من دقائق هي أغلبية حزب مصر العربي الإشتراكي كما تحولت جميع المقرات التي يمتلكها حزب مصر إلى مقرات للحزب الوطني الديمقراطي و التي مازال يمتلكها حتى اليوم.

وهكذا تكون النظام الحزبي التعددي على يد رئيس مصر السابق محمد أنور السادات لكن بشكله المقيد و الديكوري، فمنذ البداية كان السادات يميل لتقييد هذه التجربة الحزبية، فتم حل مجلس الشعب الذي أفرزته انتخابات 1976م و قد كانت هذه الانتخابات بها حد كبير من النزاهة فضاق أنور السادات ذرعا بهذا المجلس و حله في عام 1979م وأجرى انتخابات أخرى لم يسمح فيها بنجاح أحد من المعارضة باستثناء ممتاز نصار الذي أفلت من مقصلة التزوير بأعجوبة.

و مع مرور الوقت بدأ أنور السادات يضيق بالديمقراطية التي أقامها و بدأ يتكلم عن ديمقراطية لها أنياب، و أصدر العديد من القوانين التي أطلقت عليها المعارضة "ترسانة القوانين سيئة السمعة" و منها قانون الإشتباه و قانون حماية الجبهة الداخلية و غيرها من القوانين المقيدة للحريات كما ألغى اللائحة الطلابية الصادرة عام 1976م و وضع بدلا منها لائحة عرفت بلائحة 1979م لتقييد النشاط الطلابي و منع الطلبة من خوض غمار العمل السياسي.

وأدخل تعديلات على قانون الصحافة ليقيد من حرية الصحافة التي كانت شهدت قدرا من الإزدهار بدءا من 1978م، و لم يكتف أنور السادات بذلك بل حل مجلس نقابة المحامين و اصدر قرارا بتحويل نقلبة الصحفيين إلى نادي.

و ظل التدهور هو سيد الموقف في العلاقة بين أنور السادات و بين حركات المعارضة السياسية العلمانية من يمين كالوفد و يسار كحزبي العمل و التجمع و كذلك حركات المعارضة الدينية الإسلامية و المسيحية على حد سواء مما أدى لصدور قرارات 5 سبتمبر 1981م و التي بموجبها اعتقل السادات 1500 من قادة كافة أطياف المعارضة المصرية و صادر صحف المعارضة الحزبية بالإضافة لعدد من الصحف المستقلة الناصرية و الإسلامية و المسيحية.

و سرعان ما وصلت درجة حرارة الشارع السياسي المصري إلى درجة الغليان مما فجر الأوضاع في حادث المنصة الشهير ذلك الحادث الذي وضع نهاية لعصر الرئيس أنور السادات.

لكن أيا كانت حسنات أو سيئات رئيس مصر السابق محمد أنور السادات فيظل التاريخ يذكر له أنه الوحيد الذي عاشت مصر في عهده (في أخر سنة من عهده تحديدا) بلا قانون الطوارئ منذ ثورة يوليو 1952م، كما أدخل نوعا من التعددية الحزبية المقيدة و أطلق عنان الحرية لصحف المعارضة والصحف المستقلة في أحد مراحل حكمه كما تمتع المعارضون بقدر واسع من حرية التعبير و الحركة في أواخر عهده و حتى قرارات 5 سبتمبر 1981م بل إن المعتقلين الذين اعتقلهم ضمن هذه القرارات لم يلقوا أي تعذيب حتى مقتله بعدها بشهر و حينئذ خرج من خرج و تعرض للتعذيب من بقي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

هذا الموضوع نشرته في جريدة الدستورالمصرية بعددها الأسبوعى وفي مدونتى القديمة.