في آفاق التفكير الاستراتيجيى و السياسى الإسلامى

بقلم عبد المنعم منيب | 25 نوفمبر, 2016
صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

يعتبر التفكير الاستراتيجي من أصعب أنواع التفكير ليس لكثرة قوانينه و قواعده وتشعبها و تشابكها مع العديد من العلوم الإجتماعية الأخرى و لكن بسبب أنه يحتاج قدرة كبيرة على التخيل الواقعي لمدى زمني و جغرافي كبير، بجانب استلهامه دروس التاريخ على مدى زمني كبير يشمل كل الزمن و على مدى جغرافي كبير يشمل كل العالم.

و السياسة و فكرها تلي التفكير الاستراتيجي في الصعوبة فهي رغم صعوبتها تمثل صعوبة أقل قليلا من التفكير الاستراتيجي، و هذا الفرق البسيط يتلاشى لأنه كثيرا ما تندمج السياسة بالاستراتيجية.

على كل حال فهذه كانت مقدمة لابد منها للدخول لموضوعنا الذي هو عدد من الأفكار هدفها الدفع للتأمل السياسي والاستراتيجي من منطلق المعايير الفقهية المستقرة في مجال السياسة الشرعية، إنها دعوة لإطلاق الفكر للتأمل في آفاق السياسة و الاستراتيجية الإسلامية بأسلوب سهل يستفيد منه الجميع و يدركه و يتفاعل معه غير المتخصص ان شاء الله.

و مما يسهل عملية التفكير الاستراتيجي أن يتخيل المتفكر ما هي أهدافه و تصوراته النهائية التي يريد أن يصل اليها، و في حالة الحركة الاسلامية بكافة فصائلها الحيوية فالهدف هو إعادة الخلافة على منهاج النبوة، و التصور النهائي هو دولة إسلامية واحدة تضم كافة الأراضي الاسلامية التي يمثل فيها المسلمون أغلبية الآن.

و هذا التصور سيفرض عليك تخيل شكل هذه الدولة، و الذي سنتعرض له في هذا المقال جانب من الشكل السياسي و ليس كل الجوانب السياسية و نقصد به البناء السكاني للدولة إن جاز التعبير.

و المتأمل للرقعة الإسلامية المرجو توحيدها تحت راية خلافة راشدة على منهاج النبوة يجد أنها تضم أجناسا و أعراقا شتى و أديانا شتى و مذاهب فقهية متعددة و عقائد ومذاهب متنوعة داخل الدين الواحد.

فمن حيث الأجناس و الأعراق سنجد تمثيل لمعظم الأجناس و الأعراق الاثنية المختلفة الموجودة في العالم، نعم سنجدها كلها موجودة و ممثلة في العالم الاسلامي (الدولة الاسلامية الواحدة)، كما سنجد الأديان السماوية كاليهودية و النصرانية موجودة بنسب كبيرة من عدد السكان بجانب الأغلبية المسلمة، و سنجد الأديان غير السماوية كالمجوسية و الصابئة (و ان كان لبعض الفقهاء رأي بأنهم من أصول سماوية محرفة)، كما سنجد الوثنيات المختلفة كما في جنوب السودان و في أجزاء اخرى من أفريقيا و أسيا (عباد البقر و البوذية و التاوية و غيرها).

اما المسلمون فسنجد جميع مذاهبهم الفقهية كالشافعية و الأحناف و الحنابلة و المالكية و الظاهرية و غيرهم، كما سنجد جميع فرقهم العقيدية كالسنة و الشيعة و الخوارج و الصوفية و المعتزلة و الاشاعرة، سنجد هذه المذاهب و الفرق الاسلامية بكثرة و بنسب كبيرة جدا من عدد السكان.

و سنجد الكثيرين من المسلمين المخلصين الذين تلوثت عقولهم بأفكار غريبة عن الاسلام بسبب الغزو الفكري الغربي السابق.

فكيف تكون علاقة كل هذه الأعراق و الملل و النحل و المذاهب ببعضهم البعض من ناحية و بالدولة التي تحكمهم من ناحية أخرى (دولة الخلافة النبوية)؟؟

من يرد تصور هذا المشهد بطوله و عرضه و عمقه سيحتاج استدعاء الخبرة الإسلامية التاريخية حول ذلك في عصر النبي صلى الله عليه و آله و سلم و عصر الخلفاء الراشدين الأربعة رضي الله عنهم أجمعين، كما أنه سيمر مرورا سريعا بقدر قليل من التريث على الخبرة الاسلامية في العصر الأموي و العصر العباسي الأول لكن مروره على هذين العصرين سيكون مرورا حذرا باستثناء عصر عمر بن عبدالعزيز الذي يشبه عصر الراشدين في التزامه بالأسس و المعايير الإسلامية.

و في هذا التأمل سنلاحظ التسامح الإسلامي مع التنوع الديني و العرقي و المذهبي في إطار من الحزم و الوحدة، و سيتأمل حرية الرأي و حرية الفكر و حرية التعبير الكبيرة، سيجد وحدة مقترنة بالتنوع و حزما مقترنا بالتسامح و حرية منضبطة بالثوابت الإسلامية.

و لسنا بصدد تفصيل هذا الآن و لكن نريد فقط أن نتحرك بأفكارنا في رحلة الى المستقبل يصحبها عبق الماضي التليد بأمجاده الموضوعية العملية و ليست فقط أمجاده الوجدانية و الحماسية كي يمكننا أن نتغلب على الفكر القاصر الذي يبتعد كثيرا عن أدنى أبجديات التفكير الاستراتيجي و السياسي المنضبط بضوابط الشرع الاسلامي.

لابد في هذه الرحلة أو الزيارة الى المستقبل أن نتخيل متطلبات الدولة الإسلامية الناجحة من تجانس و تعايش اجتماعي و شعبي و من استقرار سياسي و اقتصادي و من تكاتف و تكافل اجتماعي و اقتصادي شامل ومن تقدم و تنمية و تطور مستمر في كافة المجالات.

و بعدما نتخيل كل هذا و نحدد معالمه الرئيسة لابد أن نعود إلى واقعنا المعاش و نرتب خططا و تصورات و مناهج و مواقف تنبني على مقتضيات التفكير المستقبلي الذي حددناه بزيارتنا للمستقبل بعقولنا على النحو المذكور آنفا، و مجموع هذا كله سيمثل البناء المتكامل لفكرنا السياسي و الاستراتيجي.

و عندما نتم ذلك كله في إطار من الضوابط و القواعد الفقهية، سنتمكن من الوصول الى مستوى ناضج من التفكير السياسي و الاستراتيجي الإسلامي، كما سنستطيع أن نرتقي بوجداننا الى مواكبة هذا النضج السياسي والاستراتيجي مما يساهم في جعل أعمالنا في نفس مستوى تفكيرنا من النضج و العمق، لأنه أحيانا يكون تفكيرنا منضبطا شرعيا و إستراتيجيا و لكن وجداننا و مشاعرنا تكون على حالة مختلفة، لذلك لابد من التوحد بين التفكير و الوجدان.

 و هذا المستوى من الفكر و الوجدان سيغير من طبيعة أعمالنا و أنشطتنا المعاصرة لأنه سيكون منطلقا جديدا من أرض جديدة عقليا و وجدانيا، ليست جديدة فقط في صلابتها و لكن أيضا جديدة في طبيعة و أنواع مكوناتها.

و اذا كنا فيما مضى من سطور قد بسطنا سبيلا للتفكير السياسي و الاستراتيجي، فان سؤالا يطرح نفسه بشكل طبيعي بعد كل هذا الكلام و هو:

كيف يتمكن المرء من ممارسة هذا النوع من التفكير أو بتعبير أدق ما هي الأدوات العلمية التي تساعد المرء على سلوك هذا المسلك من التفكير؟

أول هذه الأدوات هو فقه السياسة الشرعية فهو القاعدة الأساسية في ضبط التفكير بالمعايير الشرعية في السياسة و الإستراتيجية خاصة فيما يتعلق بالقواعد و الضوابط الفقهية في مجال السياسة و الاقتصاد و الإستراتيجية، و ينبغي الاهتمام بأصول الفقه لأنه منهج الفهم و الاستنباط لكل ما ذكرناه من موضوعات شرعية كما أن التركيز على باب مقاصد الشريعة أمر هام جدا في مجال الاستفادة بعلم أصول الفقه كأداة من أدوات التفكير السياسي و الاستراتيجي.

 و يلزم الذي يبحث في السياسة و الإستراتيجية أن يلم الماما مناسبا بفهم صحيح لعلوم العقيدة و الملل و النحل، و التاريخ الاسلامي و التاريخ بعامة، بالاضافة لعلوم الاقتصاد السياسي والاجتماع و جانب من الجغرافيا البشرية.

هذا كله فضلا عن علمي السياسة و الإستراتيجة الذين هما لب تخصصه.

لكن هذا كله لا يشغلنا عن أمر هام و هو القدرة العالية على التخيل و التوقع من خلال الأطر العلمية المذكورة.

ـــــــــــــــــــــــــــ

تم نشر هذا الموضوع فى عدد من مواقع الإنترنت وفي مدونتى القديمة بتاريخ 14 ديسمبر 2008