نقاش استراتيجى حول فتح الله جولن واردوغان وانقلاب تركيا وعصر الجماهير

بقلم عبد المنعم منيب | 2 أغسطس, 2016
انقلاب تركيا
انقلاب تركيا

هناك بعض البيئات السياسية تتسم بالحيوية فترى كل يوم فيها جديدا سواء فى الأحداث التى يصنعها اللاعبون أو فى تحالفاتهم وتحركاتهم الداخلية والاقليمية والدولية، وتمثل هذه البيئات نموذجا يراقبه المهتمون والمراقبون السياسيون باستمرار ليس فقط بسبب تجدد أحداثه وتلاحقها باستمرار ولكن أيضا بسبب إبداع اللاعبين في مثل هذه البيئات المتسمة بالحيوية وما يستلزمه ذلك من تلاحق الأحداث وتنوعها، فترى بل تفاجأ بإبداعات سياسية واستراتيجية وأمنية جديدة حينا وعجيبة أحيانا أخرى يباغتون بها بعضهم بعضا في صراعهم السياسى المتواصل.

وساحة تركيا هى من هذه البيئات السياسية الحيوية منذ سنوات عديدة، وتتسم بأهميات عديدة على أكثر من مستوى ليس بسبب حيوتها فقط ولكن أيضا لأن رجب طيب أردوغان له استراتيجية كونية وإقليمية ومحلية طويلة المدى وشارفت على مراحلها الأكثر خطورة والأكثر صعوبة، وبذا فهو مشتبك فى صراعات رئيسية وفرعية عديدة سواء مع روسيا أو إيران وذيولها أو الاتحاد الأوروبى أو الناتو أو الولايات المتحدة أو دول خليجية وعربية أو إسرائيل والصهيونية الدولية أو غلاة الحركات الاسلامية كتنظيم الدولة وفصائل جهادية أخرى أو أكراد تركيا وبعض أكراد سوريا أو علمانى تركيا وطبعا مع تنظيم فتح الله جولن.  

أكثر هؤلاء اللاعبين المشتبك معهم أردوغان يتسمون بالاحتراف السياسى والاستراتيجى بل وبعضهم لايمارس السياسة والاستراتيجية والأمن باحترافية فقط بل يمارسها بإبداع ومكر ودهاء فى آن واحد.

وفى هذا الإطار تأتى عملية الانقلاب العسكرى الأخير فى تركيا إذ برز فيه فكر استراتيجى مبدع خاصة من جانب رجب طيب أردوغان وقادة التيار الذي يمثله، كما برز فيه إبداع استراتيجى وأمنى أيضا من قبل فتح الله جولن وجماعته وإن كان ذلك اقتصر على مراحل التحضير للانقلاب حتى لحظة اطلاقه.

رأينا كيف أن رجب طيبأردوغان وحزب والعدالة والتنمية لم يقف مكتوف اليد أمام الانقلاب ولا اكتفى بالخطب الحماسية ودفع الجماهير للهتاف ضد الانقلاب فقط، بل استخدم جميع الأوراق السياسية والاستراتيجية والأمنية التى يملكها وجمعها وحشدها فى مواجهة الانقلاب (لاحظ أن تجميع القوى وحشدها من أبرز مبادئ الاستراتيجية) كما قام بتحويل الأوراق السياسية الى أوراق استراتيجية وأمنية ليعوض نقص قواه الأمنية والعسكرية فاستخدم موارد الحكم المحلى المدنية من مركبات ليسد بها الطرق أمام تحرك الانقلابيين وليحتل بها مدارج المطارات، كما استخدم الحشود الجماهيرية لتحرير المواقع الحيوية من قوات الانقلاب واعتقالها، واستخدم المساجد لحشد الجماهير واستخدم دار الافتاء لاعلان تحريم الانقلاب وحث الشعب على مساندة الشرعية..الخ.

فهنا جاء الابداع الاستراتيجى في تشكيل وتوجيه الموارد الى الاتجاه الذى به نقص لتعويض ذلك النقص، فهو ينظر لرقعة الصراع الاستراتيجى برؤية شاملة فيجبر كسر ما انكسر ويكمل نقص ما نقص ويسد كل خلل بما يستوجبه كما ونوعا في الوقت المناسب دون تأخر أو ابطاء أوتأجيل، وذلك كله بلا هوادة ولا انتظار لمجاملة أو عطف من أحد، لأنه يفهم جيدا أن الصراع الاستراتيجي لا عواطف فيه ولا مجاملات بل ولا يرحم فيه أحد أحدا فهو كالسيف إن لم تقطعه قطعك.

لقد تعامل رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية مع الانقلاب بواقعية استراتيجية وأمنية منقطعة النظير، فلم نسمع من أى منهم نداء للمجتمع الدولى ولا استعطافا له ضد الانقلاب لأن رجب طيب أردوغان وحزبه يعلمون أن الانقلاب يسانده المجتمع الدولى كما يعلمون أن الأمر اذا ما وصل للساعة صفر فإنه لن يحسم أحد الموقف لصالحه إلا من يفرض واقعه على الأرض فعليا، فرغم المساندة الدولية الكبيرة التى حظى بها الانقلاب قبل بدءه وفى ساعاته الأولى إلا أن المساندة الخارجية لاتجدى ما لم يكن هناك واقع على الأرض يدعم الإرادة الخارجية وهذا ما يفهمه أى شخص ذى وعى استراتيجى حقيقى، وهذا ما عمل وفقه رجب طيب أردوغان وحزبه.  

ودائما الذراع الأمنية الأقوى هي التى تكسب في الشأن المحلى على الأرض وكان إنقلاب تنظيم فتح الله جولن قويا من الناحية الأمنية جدا (فقد كان مساعد رئيس الأركان ورئيس المخابرات العسكرية وقائد القوات الجوية والمساعد العسكرى لأردوغان وقادة عدة جيوش كلهم من قادة الانقلاب) ولكن كتلة فتح الله جولن رغم قوتها فقد واجهتها جماهير نشطة تمارس أمنا وقتالا فصارت ذراعا ودرعا أمنيا قويا انكسرت عليه ذراع فتح الله جولن الأمنية رغم قوتها ومساندة الغرب فى الخارج لها.

وسوف تركز مراكز الأبحاث السياسية والأمنية والاستراتيجية فى الأيام القادمة على هذه النقطة المهمة والجديدة وستظل تدرس كيف يمكن كبح مثل هذه الجماهير وقمعها كى تتدارك فشل الانقلاب فى تركيا.

إن ضعف هذا الانقلاب لم يكن فى شئ الا فى كون من نظمه هم نخبة ليس لها ظهير شعبى أو قاعدة سياسية شعبية كما أنه لاغطاء سياسيا له، فهم نواة صلبة، لأنهم آلاف من قادة الجيش والقضاء والصحافة والاعلام ووزارة الخارجية وأصحاب الأموال إلا أنهم ليس لهم امتداد جماهيرى كما لم يكن لهم غطاء سياسي بينما رجب طيب أردوغان وحزبه حولوا تركيا من دولة تتبع العالم الثالث ومديونة ومواطنيها فقراء الى دولة ترتيبها 17 اقتصاديا على العالم ودخل مواطنيها مرتفع، وحاول تنظيم فتح الله جولن من فترة تدنيس رجب طيب اردوغان وحزبه بالفساد لكن لم يتمكنوا كما حاولوا بث الفرقة والفتن بسبب عمليات حزب العمال الكردى وإرهاب داعش لكن لم يفلحوا فجاء انقلابهم بلا مبرر ولا شرعية سياسية بجانب أنه ليس له تأييد جماهيرى ولا سياسي كما إنهم لم يصطنعوا جماهير بالمال والمصالح لتؤيدهم وتخلق غطاء سياسيا وهميا لهم كما حدث بانقلابات أخرى في دول أخرى، وحتى لو فعلوا هذا الغطاء الوهمى فقد كانت اليد الأمنية/الجماهيرية التركية المناهضة للانقلاب ستكسره بسهولة لكنه كان سيصنع شيئا من التشويش ولو القليل ضد رجب طيب أردوغان وحزبه.

ومع هذا أبدع تنظيم فتح الله جولن في أنه تمكن من بناء كل هذه القوة الصلبة بالتغلغل في مفاصل الدولة المهمة والحيوية بالجيش والقضاء والإعلام وعالم المال ووزارة الخارجية وبلغ أتباعه مناصبا ورتبا عالية في هذه الأماكن وفي سرية تامة بأغلب الأحيان، كما نجح في تحريك ذلك كله بغتة بمكر ودهاء، ولا يغمط من نجاحه هذا (وهو نجاح استراتيجى ليس سهلا) أن انقلابه فشل، وسيظل ما فعله هذا التنظيم يدرسه ويبحثه السياسيون والاستراتيجيون والأمنيون لمئة عام قادمة، وعند دراسة هذا الأمر سيرى الدارسون اننا دخلنا عصر الجماهير وعصر استخدام "الكم" وتحويله الى "كيف أو "قدرة نوعية".. صحيح أن هذا بدأته إيران بتكيكات عسكرية فى حربها مع العراق فى 1980 لكن من بدأ هذا فعلا فى السياسة والأمن هو حزب رجب طيب اردوغان فى تركيا فى 15 يوليو 2016.