تمكن أعداء الأمة من تسطيح عقول شباب أمتنا وطبعه بالتفاهة عبر تسويق التافهين وأصحاب المعاصى والشهوات والجهل كقدوة يتآسى بها الشباب، وحتى عندما يتجه الشباب للتدين والالتزام الإسلامى فإنهم يجدون رموزا تافهة وجاهلة ذات صبغة إسلامية روجتها جهات مشبوهة أو روجت ذات الرموز لنفسها، وغاب عن كثيرين من شبابنا القدوات الشابة، التى أنارت تاريخ حضارتنا، وكلما فكرت فى الشباب تلح على ذهنى سيرة العالم الجليل الشهير محيى الدين النووى، الذى توفى وهو لم يتجاوز عمره الـ 54 عاما هجريا، والنووى، هذا هو من اعتبره علماء المذهب الشافعى كمرجع أساسى للمذهب فلا يعتد برأى فى المذهب الشافعى منذ عصر النووى إلا إذا أقره أحد اثنين النووى أو الرافعي، ثم إن النووى رغم موته بعد هذا العمر القصير فقد ألف العديد من المراجع المهمة والبارزة، بل والكبيرة الحجم فى الفقه والحديث، فمما ألفه التالي:
-شرح صحيح مسلم فى 18 جزءا وهو المرجع الرئيس لشرح مسلم منذ ألفه وحتى اليوم.
-روضة الطالبين وعمدة المفتين، وهو من أهم مصادر فروع المذهب الشافعى ويقع فى 12 مجلدا كبيرا- على ما أذكر الآن.
-تقريب النواوى وهو مختصر لمقدمة ابن الصلاح، وقد صار من أهم مراجع علم مصطلح الحديث، لاسيما وقد شرحه السيوطى فى مرجعه الشهير تدريب الراوى فى مجلدين كبيرين.
-الأذكار، وهو مجلد واحد وصار من يومها وحتى اليوم من أهم المراجع الإسلامية فى الذكر والدعاء.
-رياض الصالحين، مجلد به أكثر من 2000 حديث نبوى مبوبة تبويبا موضوعيا جميلا، ومفيدا تصلح لتثقيف وتعليم عوام المسلمين فى أبواب الرقائق والأخلاق، وهو كتاب انتشر وانتفع به المسلمون حتى يمكن القول إنه قد يكون بلغ عدد النسخ، التى طبعت ووزعت منه منذ بدء الطباعة وحتى اليوم أكثر 100 مليون نسخة، وهذا يدل على فضل المؤلف ليس فى العلم فقط، ولكن فيما نحسبه صلاحًا وصدق نية.
-الأربعين النووية، وهو كتاب صغير، لكنه اشتهر وانتشر وكثر شارحوه رغم أن النووى نفسه شرحه، وهو أربعون حديثا نبويا اعتبره هو وكثير من العلماء أنها تدور عليها كل أحكام الدين.
-منهاج الطالبين وعمدة المفتين، وهو متن مهم ومشهور فى الفقه الشافعى ويبلغ نحو مجلد وشرحه العديد من كبار علماء الشافعية ومنهم الخطيب الشربينى شرحه في 6 مجلدات، كما شرحه الرملى وغيرهما.
-التبيان فى آداب حملة القرآن وهو كتيب مشهور.
-بالإضافة إلى العديد من الكتب المهمة الأخرى التى لا أذكرها الآن، فضلا عن كتب أخرى توفى قبل أن يتمها وأشهرها المجموع فى الفقه الشافعى.
ولم يكن النووى مجرد عالم وفقيه ينطوى على نفسه بصحبة الكتب والعبادة وينعزل عن واقع أمته السياسى والاقتصادى فلا يفهمه أو لو فهم شيئا من واقعها يفهمه خطأ، بل كان واعيا بذلك كله وعيا عميقا، حيث له موقفه المشهور ضد السلطان الظاهر بيبرس، عندما أراد بيبرس أن يفرض ضريبة على الرعية كى يستخدمها فى جهاد الصليبيين، ولم يكن يمكن إنفاذ هذا إلا بموافقة وتوقيع الفقهاء فأحضرهم كلهم ووقعوا ثم قال لهم هل بقى أحد منكم لم يوقع؟
قالوا: نعم شيخنا وكبيرنا الإمام محيى الدين النووى.
فقال: احضروه.
فلما حضر الإمام قال له وقع يا إمام..
فرد الإمام النووي: أنت لديك ألف مملوك لكل منهم حوايص من الذهب والفضة وملابس الحرير ومائتا جارية لكل منهن حق من الحلى، فضلا عن ملابس الحرير فلو أنفقت هذه الحوايص والحلى والحرير كله فى الجهاد ثم لم يبق بعدها شىء فى بيت مال المسلمين لنفقة الجهاد واحتجت مالا للجهاد فوقتها أوقع لك، فأراد أن يوقع به بيبرس فحذره فقهاء دمشق قائلين: لا يمكنك أن تمسه، فهذا إمامنا فقال إذن لا يجاورنى فى دمشق، فقال النووى والله لا أدخلها ما دمت فيها، وخرج من دمشق فضغط العلماء على بيبرس ليرجع النووى إلى دمشق، فوافق وأرسل للنووى يطالبه بالعودة، فقال: والله لا أدخلها والظاهر فيها، فما لبث أن توفى بيبرس قبل أن ينتهى الشهر، وعاد النووى حينئذ لدمشق، ثم توفى فيها بعدها بقليل.
واعتبر بعض المؤرخين أن موت بيبرس كان مما اعتبروه كرامات النووي.
وأسأل نفسى دائما متى تعلم النووى كل هذا العلم الذى فاضت به كتبه ومتى ألف وكتب كل هذا وقد مات مبكرا هكذا.. ويزيد العجب عندما تعرف أنه كان كثير العبادة من صلاة وذكر وصيام ودعاء، وكان متقشفا فيلبس الثياب الرثة ويأكل أكلا قليلا رخيصا جافا.. فسبحان من بارك ورفع قدر وعلم شابا كالنووي.. وقارنوا ذلك بمن يقدمونهم كقدوة لشباب أمتنا اليوم.